إذا كان المثل الأعلى لروضة الأطفال يتمثل في تمكين الأطفال من نطق وكتاب الحروف والأرقام والمثل الأعلى للمدرسة يتمثل في تمكين التلاميذ والتلميذات من المعارف الأساسية الأولية في مختلف التخصصات العلمية فإن المثل الأعلى للجامعة يتمثل في تمكين الطالبات والطلاب من فهم ماتعلموه في السنوات السابقة وتحويل معرفة الاولاد والبنات إلى قدرة الرجال والنساء المفترضة في بناء وتنمية المجتمعات والأوطان. هذا يشترط وجودة فلسفة تربوية وتعليمية وطنية عامة وملزمة أما حينما يخضع الاطفال والتلاميذ والطلاب لنظم ومناهج تربوية وتعليمية مختلفة المصادر ومتناقضة الأهداف ومضطربة الأدوات والاساليب وفي ظل غياب المنظومة التربوية الاستراتيجية الشاملة فمن المؤكد ان النتيجة ستكون كارثية ، كما هو حال العرب اليوم شعوب وجماعات وأفراد يعيشون في بلاد واحدة او بلدان متجاورة ليس بإمكانهم التفاهم مع بعضهم ، ويعجزون عن إيجاد اي قواسم مشتركة للتواصل والتفاهم والعيش معا، بل بلغ الحال بهم حد ان بعض سكان القرية او الحي او الشارع الواحد يجدون انفسهم فجاءة في حالة تشظي
حادة مثل قنينة الزجاج حينما تنكسر !
مفهوم الجودة الذي أخذ اليوم يشاع بقوة في الدوائر الثقافية والأكاديمية ومؤسسات التعليم العالي في معظم دول العالم الراهن قد ارتبط بظاهرة التقويم الرسمي للتعليم العالي بواسطة الهيئات الوطنية أو القومية لضمان الاعتماد الأكاديمي التي "بدأت في نهاية الثمانينات القرن الماضي، وتمثل جزء من توجهات واسعة نحو أنماط جديدة من المسئولية في الخدمة العامة والمهن" . نقول رغم حداثة نظام الجودة بالقياس إلى عراقة مؤسسات التعليم العالي وتجدرها التاريخي، فقد حافظت هذه الأخيرة طوال تاريخها على مستوى محدد من الجودة باعتبارها مرادفاً للتمييز أو الامتياز أو النوعية الجيدة، انطلاقا من فكرة الجامعة التي تم تقنينها بالقانون وتجسيدها في مؤسسة حرة ومستقلة وذات طبيعة مهنية أكاديمية نوعية وعالية الجودة. وإذا ما نظرنا إلى وضع المؤسسة الأكاديمية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية عامة ومجتمعنا المحلي خاصة فسوف نرى كم هي تلك العراقيل والمعوقات التي تحول دون النمو الطبيعي والتقدم المفترض للمؤسسة الجامعية، ووظائفها التعليمية والبحثية والتنموية والتنويرية. والجامعة في مجتمعاتنا العربية هي مؤسسة حديثة وجديدة في كينونتها المؤسسية وبنيتها التنظيمية ووظيفتها العلمية، والتعليمية والتنموية وقيمها المهنية والأكاديمية، وأنماط علاقاتها وأهدافها وعاداتها وتقاليدها، في حين أن مجتمعاتنا بحكم التخلف التاريخي لا تزال أسير البنى والعلاقات والقيم التقليدية على مختلف صعد الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية والأخلاقية هذه البنى الثقافية التقليدية لا ريب وأنها تأثر في المؤسسة الجامعية وتخترقها بسهامها المنطلقة من كل حدب وصوب، إذ إن الجامعة ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء من هذا المجتمع الذي يؤثر فيها وتأثر فيه. وقد تأسست أول جامعة عربية في مصر عام 1908م بجهود أهلية ثم تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925م جامعة القاهرة حالياً، وكانت جامعة دمشق التي تأسست عام 1923م أول جامعة عربية حكومية حديثة وفي عام 1942م أنشأت جامعة الإسكندرية وفي العام ذاته تأسست جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية، ثم تأسست جامعة الخرطوم سنة 1955م وجامعة بغداد في سنة 1957م وتأسست أول جامعة في عدن 1970م وفي عام 1971م تأسست جامعة صنعاء، وتأسست جامعة السلطان قابوس في مسقط عام 1986 وهناك ما يربوا على 300 جامعة عربية حكومية وخاصة، معظمها حديثة النشأة إذ نشأ أكثر من 80% منها بعد عام 1970م4. يصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسوثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وإزهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، أن مشكلة معايير الجودة والتميز ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط بل هي مشكلة أكثر تعقيداً مما يمكن تخيله، أنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذا أن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضه للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حرب لا هواده فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة بدون وعي في معظم الأحيان وبوعي أحياناً وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف صراع بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة اخرى.إذ يصعب فهم وتفسير تخلف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلف المجتمع والجامعة ككل.فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعرف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها والإنسان وعقلة وحريته وغير ذلك الظواهر والموضوعات التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية بل وينكرون الإنسان بعده كائن كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة ومن ثم فهو يستحق بأن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي ثقافة رسمية وشعبيه لا زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل لا زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم "علماء الدين أو علما الشريعة ولا أحد سواهم)، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية (وأن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحاء والذي جرى تأويله وتعميمه للآسف الشديد على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير، وفي مجتمع لا زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافية واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة في مجتمع ليس من بين مثلة العليا للنجاح العلم والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية بل القرابة، العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والابتذال والنفاق والمزايدات السياسية الأيديولوجية... يقول (جون وجاردنر) في كتابة (التميزة الموهبة والقيادة) " "إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعاً ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام" معوقات محاكات قيم الجودة الأكاديمية العالمية في الجامعات العربية 1. أجمع المهتمون بشؤون التعليم العالي في المجتمعات العربية على وجود جملة من المعوقات التي تعرقل نمو وتقدم وإزدهار قيم الجودة في المؤسسات الأكاديمية العربية منها: 2. غياب فكرة المؤسسة المستقلة من أفق الثقافة العربية الإسلامية. 3. عدم وجود دور اجتماعي معترف به ومقدر تقديراً إيجابياً للعالم أو للأستاذ الجامعي والمشتغلين في العلوم الوضعية الطبيعية والإنسانية ومن ثم احتقار العلم الوضعي بالقياس إلى العلوم الشرعية والدينية. 4. غياب الحرية الأكاديمية والاستقلال المالي والاداري في معظم المؤسسات الأكاديمية العربية. 5. أصبحت الجامعات أدوات لتقييد العقل وتبليد الشعور ولم تعد الجامعات صالحة لتأهيل الابتكار العلمي والأدبي الثقافي وتنمية وتنوير المجتمع وحل مشكلاته. 6. هيمنة الوصاية الأمنية من قبل الأجهزة الحاكمة على كل صغيرة وكبيرة في نشاط الجامعات والتعامل بحسب منطق الولاء الشخصي والحزبي والحسابات السياسية والأهواء الأيديولوجية الضيقة. 7. مصادرة وتقييد حرية الباحثين في المشاركة في الأنشطة الثقافية داخل البلاد وخارجها بأساليب متعددة. 8. تسخير الجامعات لأغراض دعائية سياسية وأيديولوجية حزبية لتبرير السلطات ألمتسلطة والمستبدة بكل مقدرات القوة. 9. عدم توفر المعدات والأجهزة العلمية الحديثة وكل ما يحتاجة طالب الدراسات في العلوم الطبيعية فضلاً عن غياب المكتبات والمراجع والدوريات العلمية الحديثة والمعاصرة. 10. شحت التمويل للأبحاث العلمية. 11. غياب التقاليد الأكاديمية للبحث العلمي. 12. طغيان النزعة المحلية والتقليدية على الدراسات في العلوم الإنسانية. 13. غياب القدرات الأكاديمية المتمكنة للتدريس والإشراف على طلبة الدراسات العليا. 14. ضعف الدوافع الذاتية عند طلبة الدراسات العليا والبحث واقتصار الغاية من البحث في الحصول على الشهادة والترقية والوظيفة. 15. ضعف الروح المعنوية والاهتمام أو اختفاء الدوافع الايجابية عند المعلمين والطلاب وشيوع مزاج عام من الإحباط واللامبالاة واللاجدوى. 16. غياب المثل الأعلى للجامعة والمتمثل في التفوق العلمي والأداء الأكاديمي والإنجاز المعرفي والثقافة الرفيعة والحيادية والصدق والاستقامة الأخلاقية والعقلانية والتسامح والحوار الخلاق، والإحساس بقيمة الذات. السبل الممكنة لتأهيل وتنمية قيم الجودة الأكاديمية أن التعرف على حقيقة وضعنا لا يمكن له أن يكون واقعياً بدون معرفة المثل العليا والنماذج المعيارية للمؤسسات الجامعية المعترف بها عالمياً، لا نستطيع التعرف على حقيقة معوقات الجودة الأكاديمية وضمان الاعتماد الأكاديمي والتميز في مؤسساتنا الجامعية العربية وتجاوزها إلا إذا امتلكنا معرفة كافية بطبيعة المؤسسات الأكاديمية ومعناها وقيمها المعيارية المجردة المعترف بها عالمياً..الخ. فقد كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة واحدة أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء وتطور الجامعات في القرون الوسطى، إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى، ويرى توبي أ. هف في كتابه (فجر العلم الحديث) انه من المصادفات التاريخية إن الكلمة اللاتينية Universities والتي تعني Corporation أي الجسم كله قد انحصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities (أي الجامعات). ويؤكد (جينز بوست) (أن العلماء في جامعة باريس كانوا مع حلول سنة 1215م على ابعد تقدير قد تبلور وجودهم على شكل هيئة تدعى (هيئة الأساتذة والعلماء بوسعها أن تضع القوانين وان تنفذ الالتزام بها).هذه الهيئة المتحدة هي ما أطلق عليه كلمة جامعة . وقد تم تطوير مفهوم الجامعة ليعبر عن مجموع أعضاء هيئة التدريس والطلبة المتحدون في هيئة أو كيان أو مؤسسة أو إطار قانوني واحد يمتلك شخصية اعتبارية حرة ومستقلة ويهدف إلى توفير الأمن والاستقرار والهدوء لمنتسبيه ومنع الابتزاز والاستغلال عنهم، من اجل أن يتمكنوا من متابعة دراستهم العليا بكل حرية وشفافية وموضوعية وبدون عراقيل أو معوقات أو إزعاج من أحد من أولئك المتطفلين من السياسيين والعسكريين أو رجال الدين وغيرهم. وحرية الجامعة واستقلاليتها هي سلسلة متصلة ومتكاملة بين ثلاثة انساق أساسية هي: 1- الاستقلال المالي الاستقلال المالي للمؤسسة الأكاديمية شرط ضروري للاستقلال الإداري والأكاديمي معاً بل هو أقوى الضمانات لحرية الجامعة واستقلالها، ولا يمكن أن تستمر الجامعة في أداء رسالتها دون أن يكون بحوزتها موارد مالية كافية ومستمرة وثابتة نسبياً، إذ أن المال هو عصب كل مشروع وهو قوة كل مؤسسة في تسيير عملياتها ونشاطاتها بصورة منتظمة وبيروقراطية وسلسة وكفؤه وفعاله. والاستقلال المالي للجامعة، لا يعني بأي حال من الأحوال تحويل الجامعة إلى شركة استثمارية تعتمد على مصادرها المالية الخاصة، كما يحاول بعض رؤساء الجامعات الحكومية ترويجه لاغرض خاصة ، بل يعني أن تتحمل الدولة مسئوليتها الوطنية وتمنح الجامعة ما تحتاجه من المصادر المالية في ميزانية محددة ومستقلة، يترك أمر تصريفها وتوظيفها للجامعة وهيئاتها المستقلة وفقاً للقنوات الشرعية، مع منح الجامعة الحرية في وضع القواعد المالية الخاصة بها وحرية التصرف في الميزانية المعتمدة لها وحرية التحويل من بند إلى أخر من بنود الميزانية كما يجب أن تكون الرقابة المالية على الميزانية من داخل الجامعة ذاتها دون تدخل من الخارج . وتشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من الجامعات الحكومية في الدول الأوروبية تعتمد في تمويلها على حكوماتها الوطنية، دون أن يؤثر ذلك على حريتها واستقلاليتها الإدارية والأكاديمية. "وباستثناء جامعة بوكنهام Buckingham تحصل كل الجامعات البريطانية على نسبة كبيرة لتمويلها من الحكومة من خلال لجنة المنح الجامعية UGC وهي هيئة شبه مستقلة ذاتياً؛ أعضاؤها أكاديميون، ولم يكن للحكومة دخل في تعيين رؤساء الجامعات" واحترام الاستقلال الذاتي للجامعات معناه، تخصيص المعونات في إطار الخطوط أو الأطر الحكومية العريضة التي لا تمس حرية واستقلالية المؤسسة الأكاديمية بأي شكل من الأشكال. وهذا ما أكده عبد الفتاح أحمد حجاج بقوله "أن مجمل إيرادات الجامعات البريطانية- تقريبا- تأتي من الحكومة المركزية عن طريق( لجنة المنح الجامعيةUGC)وبذلك تتمكن الجامعات من ضمان الحصول على موارد مالية ضخمة شبة دائمة من الخزينة العامة للدولة وفي ذات الوقت تضمن استقلاليتها المؤسسية وحرياتها المهنية الأكاديمية" .هذا في حين أن القابضين على مقاليد الشأن السياسي في بلادنا لا يزالون ينظرون إلى الجامعة بعقلية البقال عقلية الربح والخسارة التي لا ترى في الجامعة وكوادرها غير حفنة من النقود الإضافية على الميزانية ، مثلها مثل أي مصلحه أو مؤسسة حكومية أخرى. 2- الاستقلال الإداري: نعني بالاستقلال الإداري حرية الجامعة في إدارة نفسها بنفسها، وحريتها في وضع القوانين واللوائح التي تنظم عملها وحرية وضع هياكلها التنظيمية والمؤسسية واتخاذ القرارات الداخلية وتصريف شؤونها دون تدخل أو تسلط أو وصاية من أي جهة أخرى، سياسية كانت أو بيروقراطية رسمية أو حزبية أو شخصية خارجية والاستقلال الإداري للجامعة يعتبر من أهم الضمانات التي توفر المناخ السليم لاستقرار العمل الجامعي ونموه وتقدمه ولا يكون الاستقلال الإداري للجامعة إلا بامتلاكها حرية تشكيل أجهزتها الإدارية العليا وقياداتها الأكاديمية من رئيس الجامعة إلى رئيس القسم العلمي- بطريقة ديمقراطية تقوم على أساس الانتخابات والتمثيل الصادق للتنظيم الجامعي والتجسيد الفعال للقيم العلمية والأكاديمية مع ضرورة اشتراك الطلبة في إدارتها وتمثيلهم في هيئاتها المنتخبة، والاستقلال المالي والإداري للجامعة لا يعني الحرية المطلقة، بل يتضمن منح المؤسسة فضاء وأفق ومجال نسبي وكافي لتتمكن من الحركة والاستدارة بمرونة وسلاسة ودينامية، بما يمكنها من النمو والتطور والتقدم بقواها الذاتية، وهي بذلك تظل خاضعة في كل نشاطه للأهداف الوطنية والمصالح العليا للدولة والمجتمع في ظل الدساتير والقوانين النافذة. وقد كانت الجامعات الحديثة منذ نشأتها كيانات قانونية مستقلة، تضم هيئات من الطلبة والمدرسين الذين أعطوا صلاحية تصريف أمورهم كيفما شاءوا، ويذهب توني هف " إلى أن الجامعات جاءت إلى الوجود بوصفها نقابات علمية » دون الموافقة الصريحة من الملك أو البابا والأمير أو الأسقف بل كانت منتجات عفوية أنتجتها غريزة الارتباط التي اكتسحت المدن الأوروبية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر وكأنها موجة عظيمة« وهكذا اذا اردنا للجامعات العربية أن تتمكن من النمو والتميز والريادة في مضمار المنافسة العالمية لتحقيق الجودة ينبغي منحها ما تحتاج اليه من الاستقلالية والحرية إذ التحول إلى نظام جامعي كامل الاستقلالية ... سوف يضمن تطوير نظام التعليم العالي في البلدان العربية بمستوى عال من الجودة وسيجعله نظاماً فعالاً في تحقيق وظائف المؤسسة الأكاديمية بكفاءة واقتدار. 3- الاستقلال الأكاديمي يعود مصطلح الأكاديمية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427- 347 ق.م) إذ كان أول من أطلق اسم (اكاديموس) بمعنى المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ويعلم فيه تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة ... الخ، تمييزا له عن أماكن وأنماط التعليم السفسطائي الابتدائي، والأكاديمية تعني بيت التعليم العقلي والحر والتأمل الفلسفي المجرد والمعرفة الرفيعة التي ليس لها من غاية أخرى غير البحث عن الحقيقة. وتجدر الإشارة إلى اننا لا نزال نستخدم كلمة (أكاديمي) و(أكاديمية) بدون أن نمتلك فهماً واضحاً ودقيقاً لمعناها، بل جرت العادة على عدم التفريق بين الأكاديمي والجامعي، أو بين النقابة والمهنة أو بين التعليم العام والتعليم العالي. في حين أن المفهوم قد تطور وتحور منذ أفلاطون ليكتسب اليوم معنى واضح ومحدد. هو معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل المعرفة والعلم والتفكير المنهجي النظامي، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة. والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف المتخصص، دور المشرف العلمي (أو حارس البوابة) بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها: الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد ...الخ. وقد ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تمتع بقدر كبير من الحرية والاستغلال الأكاديمي بوصفها تقاليد راسخة في تاريخ المؤسسة الأكاديمية وسيرورتها التطورية. وقد كانت جامعة باريس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على سبيل المثال، هي التي تضع قواعد وتعليمات تنظم قبول الطلبة وطردهم وقواعد وتعليمات تحدد سلوك أعضاء هيئة التدريس؛ حقوقهم وواجباتهم وتحدد المواد التدريسية وتسلسلها، وبكلمة كانت الجامعة مؤسسة للتعليم العالي تحكم نفسها بنفسها ولا تخضع لأي ضغوط أو قوى من خارجها. ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية. كما تعني الاستقلالية الأكاديمية للجامعة حيادها الفكري وتجردها وعدم انحيازها. والحرية الأكاديمية هي حصيلة وثمرت الاستقلال المالي والإداري للمؤسسة الجامعية. إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من أخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف " بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها" ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر "إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية" ، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله"أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع " . وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار. هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها. لكن كيف يمكن للجامعات العربية أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة؟! هذا هو التحدي الحاسم الذي يجب تستجيب له كل الدول والحكومات والمؤسسات الأكاديمية العربية وكل عضو من أعضاء الهيئة التدريسية والتدريسية المساعدة فيها استجابة ايجابية فعالة أن اردنا تحقييق الشروط الضرورية للجودة الأكاديمية وضمان الاعتماد الأكاديمي وفق المعايير العالمية.