ثمة أوهام شاعت فترة من الزمن عن الاعتدال المزعوم للمذهب الزيدي، باعتباره نموذجًا فكريًا لا يماثل الصرامة المذهبية لدى غيره.
هذه الصورة الزائفة ظلت تخفي حقيقة أشد تعقيدًا، إذ لم تكن الزيدية يومًا خارج دائرة الإمامة؛ ضمن الإطار الديني/السياسي والاجتماعي المصمم خصيصًا، في جوهره، ليخدم حكم الإمام القادم من "البطنين"، وحيث لا مكان للآخرين سوى أدوار هامشية، تُسيَّر ضمن منظومة مغلقة، لا تسمح إلا لأبناء السلالة والقبيلة بالاقتراب من دوائر القرار، (والقبائل في هذه الحالة مجرد خدم).
الإمامة ليست مجرد فكرة سياسية عابرة في تاريخ هذا المذهب، بل هي لبّ وجوده. وحين نبحث في أدبياته ومراجعه، يتضح أن شرعية الحاكم ترتبط بالنسب الهاشمي (زيديًا بالطبع)، ومعه تتحول الدولة إلى "حق خاص" لهذه الفئة، بينما يُدفع بقية اليمنيين إلى الهامش، مواطنين بدرجات متفاوتة، تبدأ من الثانية فما دون.
ولم يكن هذا المذهب في يوم من الأيام مرنًا تجاه فكرة المشاركة الوطنية الحقيقية، كما لم يكن منفتحًا على إمكانية تأسيس دولة تحتضن الجميع. فحيثما تجذّرت الزيدية سياسيًا، كان الحديث عن دولة المواطنة المتساوية ضربًا من الخيال. حتى عندما تراجعت الإمامة في مراحل تاريخية معينة، لم يكن ذلك استسلامًا، بل كان أشبه بكمون مؤقت بانتظار فرصة سانحة.
والإمامة لا تعرف أن تطل برأسها دومًا إلا من الحاضنة الاجتماعية لهذا الإطار المذهبي المخصص لحكم السلالة، لا لحكم الشعب. ومن هذا المنطلق، لا يمكن الحديث بتاتًا عن بناء دولة سع الناس (ما بالكم أن تكون دولة حديثة) من دون تحييد هذا المذهب عن السلطة، لأنه ليس مجرّد اجتهاد فقهي، بل منظومة حكم متكاملة تسعى باستمرار إلى العودة، كلما أتيحت لها الفرصة.
الدولة يا معشر اليمنيين لا يمكن أن تُبنى مطلقًا وفق منطق الامتيازات الموروثة اللا أسوأ منه، ولا يمكن أن تكون ساحة لتحقيق أحلام السلالة وأوهامها بالاصطفاء الإلهي. الدولة يجب أن تُبنى على أسس المواطنة المتساوية، حيث الإنسان هو القيمة الأعلى، بصرف النظر عن نسبه أو مذهبه ومنطقته... إلخ.
ولعلّ الخدعة الكبرى تكمن فيمن يرى هذا المذهب معتزليًا منفتحًا على الفكر والعقل! وفي الحقيقة قد يجده المرء عقلانيًا في شتى المسائل النظرية (ربما في كل ما دون ولاية علي وأبنائه والامتياز الطبقي)، لكنه في السياسة، وهنا مربط الفرس، لا يخرج عن كونه معتقدًا مفصّلًا بدقة لاستمرار فكرة الإمام الحاكم من ذات السلالة.
فلا مفر، وبكل وضوح وبدون غمغمة، من نقد هذا الموروث السياسي والديني الذي استنفد اليمن قرونًا في حروبه المنحطة، ومنعه من التطلع نحو فكر الدولة.
البديل دولة علمانية تضمن لكل مواطنيها حق المشاركة في إدارة الشأن العام، دون وصاية مذهبية أو سياسية، ليكون الإنسان، وليس نسبه، هو معيار الوجود في هذا الوطن.