في طغيان النزعة الفردية في الثقافة العربية الإسلامية
تأمل في سبب فشل المشاريع العربية المشتركة
ربما تعود عقدة الشخصنة عند العرب إلى غياب ثقافة المؤسسات وقيم العمل الجماعي التعاوني في فرق أو جماعة متجانسة ومتفاهمة ومتسامحة، من خبرتي الطويل في العمل المدني والنقابي والمدني والأكاديمي والثقافي المحلي والعربي لاحظت طغيان النزعة الفردية والنزوع الأناني عند بعض الأشخاص لتكريس أنفسهم رغم عدم استحقاقهم وتهميش غيرهم من الكفاءات المستحقة بجدارة حتى بين النخب المثقفة قلما المشاريع المشتركة إذ يتفرد في أخر المطاف شخص بحاله ويكوش جهود أصحابه مدعيا بانه جهده الشخص. فما سبب هذه النزعة الأنانية المهيمنة في مختلف المجالات الاجتماعية من قمة الهرم الاجتماعي ( السلطة) حتى قاعه ( الأسرة)؟ وربما تعود تلك النزعة المدمرة إلى عقيدة الخلاص الفردي الراسخة في الثقافة العربية؛ فكرة صحراوية متناسلة من الزمن الجاهلي، حينما كان الناس يبحثون عن أرزاقهم بظلال سيوف وبرعي إبلهم كما قال عبدالمطلب (إني أن أنا رب إبلي وأن للبيت رباً يحميه) تلك الفكرة الناتجة من طبيعة الحياة الصحراوية المتذررة مثل قبرات رمل الصحراء في مهب العاصفة المتنقلة لم تعد صالحة في زمن العولمة وانكماش الزمان والمكان وصيرورة العالم قرية كونية وحدة. في زمن الدول بوصفها مؤسسات عامة وحامية وضامنة فلا قيمة للأفراد والشعوب بدون دول وطنية ذات سيادة مستقلة. ومن المعلوم أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين والموت والحياة نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسات الحديثة وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال فيها بعض الناس ينكرون أهمية وضرورة وجود ونمو تلك المؤسسات بوصفها شبكة من الإطر المنظمة تشكل في مجموعها الدولة، إذ تعد المؤسسات هي أهم مقومات الدول الحديثة، وهذا ما يفسر حرص مواثيق الأمم المتحدة بتعريف جريمة الإبادة الجماعية بتدمير المؤسسات الحيوية في مجتمع من المجتمعات. والأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية. ونحن الذين نقوم بتشكّيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا والمؤسسات العامة في المجتمعات الحديثة لها حرمة مقدسة مثل حرمات المقدسات الدينية الإسلامية في مكة والمدينة والمساجد والمقابر وغيرها، التي يحرص الجميع على تبجيلها وحمايتها وصيانها وتنميتها دون قوانين ملزمة بل بالقيم والهيبة والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاهها. والمؤسسات العامة التي ينتفع منها جميع أفراد المجتمع لا يمكنا أن تحمي ذاتها بذاتها بل يجب أن يحرص جميع أفراد المجتمع على حمايتها كما يحرصون على حماية منازلهم. فهل أدركنا ماذا تعني مؤسسة عامة أنها تعني مصلحتك ومصلحتي ومصلحة الأجيال التي ستأتي بعدنا، ولا يجوز التهاون بها ابدا في كل حال من الأحوال، والمجتمع الذي يعجز عن حماية مؤسساته العامة القائمة ليس بمقدوره ابدا إعادة تأسيسها وبناءها بعد ضياعها. وليس هناك ما هو أصعب من بناء مؤسسة عامة في المجتمعات التقليدية. وفي المجتمعات التي تفتقد الى ثقافة وخبرة المؤسسات الحديثة بوصفها شخصيات اعتبارية مستقلة تمتلك أهلية قانونية وتدير أمورها بمواثيق ودساتير أو عقود قانونية مجردة ، تهيمن ثقافة الإيمان السحري بالأشخاص من بني الانسان وقدراتهم الخارقة على حل المشكلات الاجتماعية وتجاوز الأزمات السياسية التاريخية ؛ ثقافة الشخصنة تلك توفر بيئة خصيبة لنمو وازدهار ثقافة قيم التنافس والصراع بين الافراد تحت وهم الاعتقاد بإنهم هم المعنيون بالأمر إذ أن الأوليات الاجتماعية المادية والمعنوية تتفاعل في السياق المضطرب للأحداث مدفوعة بمشاعر مركبة من الخوف والتهديد والقلق والشعور بالعجز والأمل والرجاء لتتمخض في لحظة من اللحظات عن انبثاق ادوار مختلقة تستدعي وجود اشخاص ذات صفات محددة ، سرعان ما تنجبهم لإشباعها بطريقة يصعب فهم دينامياتها اللاعقلانية المتخفية ، تماماً كم تفعل دينامية الكبت والحصر في أعماق ذواتنا الفردية فيما وصفه سجموند فرويد بالانزياح والتصاعد والتعويض الاستهيامي لإشباع الحاجات الحيوية الملحة ، وهكذا هو حال الهستيريا الجماعية في حالات العجز والفشل في الحصول على الإشباع الممكن في الواقع، إذ تضطر اخيراً الى البحث عن حلول ولو كانت وهمية ، وهذا ما لاحظته في الحالة العربية الإسلامية ، والحالة اليمنية على نحو أشد ، اذ نجد أشخاص ممن كنا نظنهم اكثر حلم وحكمة ينساقون مع وهم ثقافة البحث عن المنقذ الخارق ؛ زعيم أو بطل أو شيخ دين أو بلطجي ورغم أهمية الأشخاص ودورهم الفاعل في التاريخ الإ أنهم محدودي القدرات والطاقات بدون مؤسسات فاعلة إذ مهما كانت عبقرية الأشخاص وكفاءتهم وإخلاصهم وجهودهم فانهم بدون وجود مؤسسات فاعلة وكفوءة ، كأنما يحرثون البحر! الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكنها أن تستمر وتدوم إذا وجدت من يتعهدها ويصون ! وهكذا بقت الدول التي تحكمها المؤسسات البروقراطية الحديثة مزدهرة منذ مئات السنين في العالم الحديث بينما كل النظم التي تمحورت حول الأشخاص منذورة بالخراب والزوال بزوالهم الحتمي ! أنا أحترم الأشخاص ولكن لا أثق بقدرتهم على فعل إي شي جدير بالقيمة والاعتبار إذا كانوا لا يمتلكون مؤسسات مبنية على أسس قانونية عقلانية سليمة ! وفِي الثورات قل لي ما شعارك أقول لك من أنت وفِي السياسة قل لي ما هي مؤسستك أقول لك من أنت! والشعوب حالة ثورية عائمة وعلى النخب الفاعلة تقع مسؤولية تحويلها إلى حالة مؤسسية مستقرة ونحن الذي نقوم بشكّل مؤسساتنا باتباع جملة من القيم والاجراءات ثم تقوم هي بتشكلنا.نكرر الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكن أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون.فكيف ما كانت مؤسساتنا نكون! وفِي عدم وجودها لا معنى للكلام واللف ويرى عالم أجتماعي العلم الأمريكي توني هب في كتابه المهم ( فجر العلم الحديث ) أن غياب البنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينية وغير الدينية، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعا. ولا شك إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد عاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء الجامعة بوصفها مؤسسة حرة ومستقلة، يقول (هف): "إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً" (توبي .هب ، المرجع السابق، ص 129 ).