ما هو التاريخ؟ وما الذي بقي من وظيفته في عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي؟ نقصد وظيفة التأريخ الذي حددها ابو علم التأريخ هيرودوت اليوناني (حوالي 484 ق.م - 425) بقوله" هو تدوين الاحداث العظيمة وحفظها من الضياع والنسيان" فما الذي بقى من تلك الوظيفة التوثيقية للتاريخ وقد امتلك كل إنسان بما فيهم الأطفال الموبايل الذي يوثق كل صغيرة وكبير ة تحدث في حياته؛ يوثقها بالحرف والصوت والصورة لحظة بلحظة؟ وحينما يقول مالو ( أن التاريخ هو أن نترك ندبة في الأرض) أو يكتب الأمريكي " دافيد رونالد" من جامعة هارفارد،( تاريخنا بلا أهمية) 1977م أو حينما يعلن المؤرخ البريطاني " ج. هـ. بلومب " في كتابه " حيرة المؤرخ" عام 1964م " ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق" أو يكتب المؤرخ الإنجليزي المشهور " جفري باراكلاف" من جامعة اكسفورد، تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة " إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وان أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم" ١٩٧٠م أو حينما يكتب الأمريكي فوكوياما ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير)١٩٩٠م. أو حينما يخطب دبليو بوش في جنوده ومجنداته قبيل لحظات من اجتياح العراق العظيم قائلا لهم ( أنتم تصنعون التاريخ) وحينما أشاهد بام عيني مجندة أمريكية تمتطي الدبابة في شارع السعدون، قلب مدينة بغداد، عاصمة الحضارة العربية الإسلامية فهذا ولا شك يدل على اضطراب معنى التاريخ😳ثم يأتي فيلسوف التاريخ الأمريكي الفين توفلر ليمنح عبارة بوش معنى بوصفه حرب الاجتياح الأمريكي للعراق حربا بين الموجة الحضارية الثالثة الصاعدة وبقايا الموجة الثانية. وبهذا اختلف صورة التاريخ التي توحي بمسار النهر المتدفق باستمرار إلى مصبه الأخير. توفلر وآخرين يرون أن التاريخ يشبه البحر وليش النهر ربما قرأنا عن تشبيه التاريخ بالنهر بوصفه صيرورة دائمة الحركة عبر الزمان من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إذ أن التاريخ يجري كما تجري مياه الأنهار إلى مصالتها؛ أنها تجري باستمرار يستحيل الاستحمام بها مرتين! بحسب هيرقلطيس. لكن هل هذا التشبيه دقيق ويشبع المعنى؟
الأنهار تجري في مسار واحد تنساب أو تجرف لكنها جميعها تصب في آخر المطاف في البحر ؛ البحر البحر هو من يشبه التاريخ أو يشبهه التاريخ إذ أننا نعيشه كما تعيش الأسماك بالماء وكما هو قانون البحار وحياة الأسماك الكبيرة التي تتغذى على الأسماك الصغيرة يمكن النظر إلى التاريخ وحركته المستمرة. نعم هو يتحرك حركة ذاتية نسبية ولكنه لا يسيل إلى مكان ما خارج هذه الكوكب. ومن البحر استلهم الشاعر الكاريبي ديريك والكوت قصيدته ( البحر والتاريخ) فالبحر هو محور التاريخ حيث يحتفظ بالذكريات في قاعه كما يحتفظ بجثث ضحاياه وسفنهم ومقتنياتهم. ومن الاخطاء الفادحة في الدراسات التاريخية التقليدية أن الباحثين في التاريخ والآثار انشغلوا في تدوين ما حدث ويحدث في اليابسة وكل ما هو متاح للرؤية والمشاهدة بينما ظل التاريخ الحقيقي محتجبا عنكم في اعماق البحار والمحطات التي تشكل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مجازنا بينما هي في حقيقتها كرة مائية أو بحرية وصف أقرب إلى الحقيقة
إنه البحر الذي يستحق القراءة منذ أقدم العصور ولا زال هو من يشكل ويعيد تشكيل العالم بمختلف الصور والأنحاء وكل دراسة لإحداث ووقائع التاريخ الأرضية تظل قاصرة بدون أن تشتمل على فهم دور البحر وتاثيره المباشر وغير المباشر في حياة الناس الترابية. وربما ادركت مدرسة التاريخ الجديد موخرا ذلك الأمر وهذا هو ما فعله المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل وهو أحد مؤسسي مدرسة التاريخ الجديدة حينما جعل من عالم البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي على أيام فيليب الثاني – وهذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره عام 1949 – نموذجاً تطبيقياً لكتابة التاريخ بحسب المنهجية الشمولية التي يدعو إليها. وقد توصل بروديل من دراسته المستفيضة لهذا الموضوع إلى وجود شخصية تاريخية لهذا البحر. وقد تجلى ذلك في وحدة النظم الاقتصادية والسياسية التي سادت في معظم الدول التي قامت على شواطئ البحار وهكذا بدا الأفق الشمولي عند بروديل"مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي إذ تحدث بروديل عن ثلاثة أزمنة وهي: الزمان الجغرافي والزمان الاجتماعي والزمان الفردي. وفي اطار هذا الفهم تبرز "امكانية لكتابة ثلاثة تواريخ ثانوية أو فرعية تصب كلها في ذات التاريخ الأصلي (الكلي) أو (الشامل): أولها تاريخ جغرافي (يهتم بدراسة الطبيعة أو المكان كتاريخ)، ثانيها: تاريخ ظرفي اجتماعي (يعنى بدراسة المجتمع والحضارة)، ثالثها: تاريخ حدثي (سياسي). ولا يعني هذا الاخير عودة مقنعة إلى المنهج التاريخي القديم، بل التأكيد على أن ثمة شروطاً تحدد الحدث نفسه وتسمح بامكانه". وقد خلص بروديل من كل ما تقدم إلى أنه قد أنجز في كتابه (البحر الابيض المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني) تاريخاً متعدداً لكنه واحد، لأن حركته تسير من البنية، أي من شروط لامكان إلى الحدث. في ضوء ما تقدم يمكن لنا القول بأن فهم تاريخ العالم الحديث والمعاصر ، والاستعمار أهم ملامحه لا يمكن أن يتأتى بدون فهم حركة الاكتشافات الجغرافية وطرق السفن والبحارة ورواية روبنسون كروزو
وفي ذات السياق "تضع أعمال قرنح المحيط الهندي في المركز كمكان، وخلاله تتخلق التواريخ والهويات والعلاقات والصلات والسياسات. إن الساحل الشرق إفريقي السواحيلي العريض، والذي لا يحظى بما يستحق من استكشاف مع ذلك، هو موطن مزيج ثري من أشكال التراث الإفريقي والآسيوي والعربي، وهذه العوالم هي التي يرسم قرنح خرائطها في رواياته"
والاكتشاف فعل حركة ونقلة وقوة وتفوق وسيطرة ومن يكتشف يصمم ويشكل يسمي الذات والأخر فمن نحن ومن الآخر وكيف يمكننا الخروج من هذه الشبكة العلائقية المستحكمة في تاريخنا الحديث والمعاصر؟
تداعت هذه ألأفكار إلى ذهني البارحة وأنا في ندوة (تطوّر معنى التاريخ عبر الزمن) التي نظمتها وحدة الدراسات التاريخية في المعهد العالمي للتجديد العربي. قدمها الأستاذ الدكتور، أحمد محمد رباح، استاذ التاريخ المرموق وعميد كلية الآداب في الجامعة اللبنانية وعقب عليه الدكتور, مروان أبي فاضل، استاذ التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية وأدارها الدكتور عماد غرلي، استاذ التاريخ بجامعة لبنان ورئيس الوحدة وذلك بحضور نخبة من المفكرين والمهتمين العرب من الجنسين. كانت ندوة متميزة باهمية موضوعها وحضورها. وقد حرصت على متابعتها والتداخل فيها بدافع اهتمامي الشخصي والتخصصي بالتاريخ وفلسفة التاريخ. على من ساعتين احتدم النقاش حول التاريخ ومعناه واهمتها ووظيفته وكل ما يتصل به؛ كانت الندوة بالنسبة لي اشبه بالعصف الذهني، إذ جعلتني اتذكر ما سبق وفكرت به أو تكتبه في زمن مضى حول التاريخ ومعناه وقواه لاسيما بعد أن شاهدت بغداد ومتاحفها التاريخية في العراق التي تشبه اسمها بالعراقة والرسوخ التاريخي تغير كل شيء في حياتي ما بين ٢٠٠١ إلى ٢٠٠٤ فهناك وجدت نفسي وجها لوجه مع التاريخ الذي ينيخ بكلكله الثقيل على عاتق الحضارة البشرية. فتحول السؤال الوجودي عن من هو الإنسان؟ إلى سؤال فلسفي تاريخي عن ما هو التاريخ؟ وكيف يتحرك وإلى اين يسير؟ ولما كان قدرنا أن نكون شاهدين على هذا العصر ومنفعلين بما يحدث فيه من تغييرات وأحداث ومشكلات، فمن الأجدر بنا أن نفهم ما يدور حولنا ونتعرف طبيعة المنطلقات الفلسفية والمسارات العامة التي توجه دفة قيادة التاريخ العالمي في عالمنا المعاصر، والفلسفة هي النافذة التي نطل منها لتعرّف حقيقة عصرنا ومشكلاته ذلك لأنها روح عصرها ملخصاً بالفكر، ولا مندوحة لنا نحن القاطنين في هذا المكان المتوسط من الأرض من الفهم العميق للروح الفلسفية العامة التي تكمن خلف كل تلك المظاهر والأحداث والملامح التي تشكل وجه عالمنا الجديد، وتشكل وجهنا في نسيج هذا العالم الخارج عن نطاق سيطرتنا، والخاضع لديناميات قوى عالمية غربية وشرقية وإراداتفاعلة أخرى، قابضة على نواصي التاريخ والحضارة والمدنية والثقافة.ولما كانت الفلسفة حواراً بين الفكر والواقع، بين الإنسان وعصره، بين الشعوب والحضارات، حواراً يجدد الدهشة ويثير التأمل ويفتح الآفاق ويضيء السبل والممكنات لفهم المشكلات وحل الأزمات،فإن حاجتنا ماسة لمثل هذا الحوار الثقافي الذي يعين البشر على تحديد الأسئلة الجوهرية والبحث عن الإجابات المناسبة والممكنة عنها، ولاسيما بعد أن صرنا اليوم دون أجوبة لأن الأسئلةالتي طرحناها لم تكن مطابقة للواقع، لذا جاءت أجوبتها مخيبة للآمال. فما أحوجنا لفهم شيءعن عصرنا وطبيعة مشكلاته وحقيقة فلسفاته، كي نتمكن من التعاطي معه على أسس عقلانية واقعية نقدية. هناك في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد أعدت التفكير في التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسه أبداً. فكان سؤال التحدي والاستجابة عند الذي أستوقفني إذ كيف لنا اليوم أن نواجه تحدي التاريخ العالمي؟ لا سيما ونحن نعلم أن العالم العربي يزخر بتراث تاريخي حضاري وثقافي غني جدا ففيه نشأت نصف حضارات العالم القديم في جبال اوراس إلى النيل والفرات واليمن وما بينهما ( الحضارة المصرية القديمة والاشورية والسومرية والكلدانية والبابلية والكنعانية والفينيقية وحضارات الشمال الافريقي والمغرب العربي الكبير والحضارة اليمنية في جنوب الجزيرة العربية وغيرها) فضلا عن كونه مهد الديانات الابراهيمية الثلاث( اليهودية والمسيحية والإسلام) لكن التاريخ بوصفه تراثا لا يضي الموقف المعتم في اللحظة العالمية الراهنة فلا بد لنا من التعرف على الأخر الذي يعيد تشكلنا فالآخر هو مرآة الذات لكن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للانا بذاتها ولذاتها دون عنأ أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من إختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر بالآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة إذ بأضدادها تتمايز الأشياء. والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها. هناك في العراق التليدة شهدت بنفسي لحظة الصدام التاريخي القاسي بين بداية التاريخ ونهايته وما كان لها من نتائج مروعة على الوطن العرب والعالم كله. فجاءت اطروحتي في فلسفة التاريخ الغربية محاولة لفهم التاريخ ومساراته العالمية في ضوء نظرية التحدي والاستجابة. وهي محاولة لتسلط الضوء على فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر، آرنولد توينبي موضوعاً، إذ يعد العصر الحالي منذ بدء القرن العشرين أكثر العصور نزوعاً الى التفكير بصورة تاريخية، وذلك بسبب ما شهده مشروع الحداثة الغربية من أزمات خانقة وأحداث عاصفة ومتغيرات كثيرة في مجمل الخبرة التاريخية في الثقافة والحضارة والمدنية، وهذا ما أفضى إلى ازدهار فلسفات التاريخ المعاصرة على نحو لم يسبق له مثيل. إذ شغلت مشكلة التاريخ وقواه وحركته وتطوره، ومشكلة الحضارة الغربية ومصيرها عدداً واسعاً من الفلاسفة والمفكرين، أمثال شبنجلر وتوينبي وبليخانوف وپوپر وكروتشه وجورج لوكاتش وكولنجوود وكولن ويلسن واشفيتسر وليفي شتراوس وسارتر، وهيرمان، وجارودي وفوكو وتوفلر وهنتجتون وفوكو ياما غيرهم وتقدم هذه الأطروحة تحليلاً نقدياً شاملاً لأبرز الاتجاهات الفلسفية المعاصرة التي فسرت التاريخ والحضارة من زوايا نظر مختلفة ومتصارعة وأهمها: الاتجاه المادي الماركسي، والاتجاه الحيوي النيتشوي، والاتجاه الوضعي التجريبي، والاتجاه التأملي المثالي، والاتجاه البرجماتي الذرائعي، والاتجاه الليبرالي الجديد الذي يعد ارنولد توينبي ابرز ممثليه، إذ أن دراسته للتاريخ والتي بناها على مدى أربعة عقود، تقف معلماً بارزاً في الليبرالية الحديثة، فهي تعبر عن مميزاته عن فشلها، وعن التشاؤم التاريخي الكامن خلفها.وفي سياق تتبعنا لنشؤ تطور فلسفة التاريخ وتطورها تناولنا أهم التصورات الأسطورية واللاهوتية والميتافيزيقية في تفسير التاريخ وقواه وحركته واتجاهه وغاياته وخلصنا إلى أن فلسفة التاريخ من حيث هي تشريع أنساني عقلي لم تزدهر إلا بعد الثورة المنهجية الكبرى منذ عصر النهضة الأوربية وبدء الحداثة الغربية التي جعلت الإنسان محوراً لكل فكراً وسلوكاً، إذ سادت نظرة تقدمية ليبرالية متفائلة في تفسير التاريخ والحضارة الأوربية ومنذ نهاية القرن التاسع عشر أخذت تشيع في مختلف الدوائر الثقافية الأكاديمية الغربية نزعة تشاؤمية في فلسفة التاريخ والحضارة، إذ حلت فكرة الاضمحلال والانحلال محل فكرة التقدم والتطور، وحل الخوف والقلق والشك محل الثقة والطمأنينة، وحلت النسبية والعرضية محل الحتمية والضرورة في صورتي التشاؤمية الثقافية والتشاؤمية التاريخية، وخلصنا الى ان الصراع بين فلاسفة التاريخ لم يكن صراعاً معرفياً أكاديمياً منهجياً حول معنى التاريخ والمعرفة التاريخية، بل كان صراعاً على التاريخ ذاته بهدف السيطرة عليه وقيادته وتوجيه مساره والفوز بخيراته. وفي وسط ذلك الصراع تقف فلسفة ارنولد توينبي الليبرالية الجديدة كمحاولة للتوفيق بين جميع الاتجاهات الفلسفية إذ جمعت بين النظرة الدورية للحضارات والنظرة الخطية للعناية الإلهية، وذلك بتأكيد التعاقب الدوري للحضارات مع الحفاظ على دور الوثبة الحيوية في نظرية التحدي والاستجابة.وإذا كان توينبي قد كتب نقشاً على ضريح الحضارة الغربية فان المتشائمين الثقافيين أمثال نينشه شبنجلر وفوكو يتجمعون للاحتفال والسهر حول الجثة قبل دفنها. وعلى الرغم من تشاؤمية توينبي التاريخية ألا انه أبقى باب الأمل مفتوحاً, مشدداً على مسئولية الإنسان الأخلاقية في توجيه مسار التاريخ والحضارة للنماء أو للفناء, إذ دعا توينبي لقيام دولة عالمية تظم جميع الحضارات والشعوب والأديان منتقداً فكرة المركزية الأوربية والإمبراطورية والاستعمار والتعصب القومي والمذهبي، غير انه في دراسته للحضارة الإسلامية أعتمد على التراث الاستشراقي وجاءت أحكامه مضطربة ومتناقضة في كثير من المواضع، وكان موقف الفكر العربي من توينبي موقفاً احتفالياً أكثر منه نقدياً أكاديميا.
ختاما: فيما يتصل بكلمة تأريخ ومعناها فيمكنني القول أن مفهوم التاريخ قد استأثر قديماً وحديثاً باهتمام المؤرخين والكتاب والفلاسفة وتعددت الآراء والمباحث فيه، "حتى إلفينا أنفسنا أمام نتاج واسع يتناول التاريخ مصطلحاً وفكرة وفناً وموضوعاً وميداناً من ميادين المعرفة الإنسانية"وكلمة التاريخ من الكلمات التي تعرضت الى سوء فهم لا حدود له بسبب ما الصق بها من معان متعددة ودلالات مختلفة اذ اخذ الناس يطلقونها على ظواهر وأشياء لا حصر لها من قبيل: تاريخ الكون، وتاريخ العالم، والتاريخ العام، وتاريخ البشرية، وتاريخ الطبيعة، وتاريخ الإنسان، وتاريخ العلم، وتاريخ الحضارة، وتاريخ المدنية، وتاريخ الثقافة، وفلسفة التاريخ، وتاريخ الفلسفة، والمنهج التاريخي، والتاريخية، والحتمية التاريخية، وعلم التاريخ، والبحث التاريخي، والتاريخ السياسي، والتاريخ الاقتصادي، والتاريخ الاجتماعي....إلى آخره من الموضوعات التي تطلق عليها كلمة التاريخ إذ ان من يعود إلى مادة تاريخ في أية موسوعة يتعجب من عدد الكتب المؤلفة في موضوعها وذلك في لغة واحدة "وسيصعب تقدير حجم كتاب يؤلف اليوم على نمط القسم المخصص للتاريخ في فهرست ابن النديم"ولعل هذا اللبس الذي يكتنف مفهوم التاريخ هو ما يفسر حيرة الدارسين في فلسفة التاريخ، إذ نجدهم يتساءلون في بدء كل عمل عن "ما هو التاريخ؟" كيف نفهم التاريخ؟ ما هي فكرة التاريخ؟ وهل التاريخ سلسلة متصلة ومتجانسة من المراحل والحلقات أم ركام هائل ومشتت من الحوادث والأحداث؟ وهل هو واقف أم يتحرك ؟ واذا كان يتحرك ما هي قواه الدافعة ؟ وما شكل حركته؛ هل خطية؟ أم دائريّة ؟ أم حلزونية؟ نهرية جارية أم موجية راجعة ؟ كل تلك الأسئلة سوف تجدون ما يشبها في روابط المقالات المنشورة في الحوار المتمدن وغيره من المواقع .