نحن على مسرح هذه الحياة أحد اثنين:
إما إضافة نوعية أو إضافة كمية إليها، وما أكثر النوع الأخير ممن يولدون عاجزين، ويموتون عاجزين، وما بين عجز البداية وعجز النهاية سلسلة من العجز والبطالة، وما أقل النوع الأول ممن يمثلون مشاعل هداية وحداة ركب لمسيرة الإنسانية.
هائل سعيد أنعم زيد العريقي، المولود في العام 1902م، الرابع بين إخوته السبعة، لرحل صالح في قرية قرض، في الحجرية، تعز، وبمجرد ذكر الحجرية لوحدها يستثير في النفس همة وشموخ ملوكها الحميريين الأوائل، ابتداء من يعفر بن مالك بن الهميسع من حمير، مرورا بالخليفة الحاجب المنصور بن أبي عامر المعافري الأندلسي، والثائر الصوفي أحمد بن علوان، وكوكبة من عظماء اليمن الكبار في مختلف العصور. ولمن لم يعرف، فقد كانت الحجرية قديما تغطي أسواق اليمن والحجاز ونجد والبصرة وبغداد والشام بثيابها وبرودها وأنسجتها. تحدثت عنها صفحات التاريخ.
في ظاهرة نادرة من التحام الإخوة استطاع الأربعة الذكور الأشقاء، ثم أبناؤهم وأحفادهم من بعدهم أن يضيفوا قيمة إيجابية على صعيد المسرح الإنساني، بتأسيس مجموعة تجارية عملاقة هي حديث الناس اليوم، لا في اليمن فحسب؛ ولكن خارج اليمن أيضا، وما كان لهذا الإنجاز العملاق أن يتحقق لو لم يكن وراءه روح وثابة وعزيمة صلبة وإرادة جامحة.. لولم يكن وراءه أخلاق وصدق وأمانة الرجال الأوفياء، لو لم يكن وراءها مسحة صوفية رقيقة، مكتنزة بعقارات القيم والنبل والالتزام.
في معلامة القرية التحق الطفل هائل وعمره ست سنوات، وفيها تخرج بعد أربع سنوات، بعد أن أكمل قراءة القرآن الكريم، ومبادئَ الحساب والكتابة، وبدت عليه علامات النبوغ والتميز صغيرا، وسط بيئة دينية محافظة، تقدس العمل وتحترم المتدين.
ذات صبح من صباحات العام 1923م ودع الشاب هائل سعيد أهله بقلب خفوق وعينين دامعتين، مغادرا نحو عدن، مع بعض رفاقه من الأعروق، ومنها إلى فرنسا للاغتراب.
وصلوا عدن بعد ثلاثة أيام شاقة. لينتظر بعدها أياما هناك حتى تأتي الباخرة المتجهة إلى مدينة مرسيليا البحرية في فرنسا، والتي كان قد سبقه إليها أيضا أخوه الكبير الشاب عبده سعيد، وبعض أبناء قريته.
بعد أيام قليلة وصلت الباخرة الفرنسية إلى عدن، متجهة نحو فرنسا، ومن الطبيعي أن تمر على جيبوتي للتزود بالوقود، ويا لأجمل المصادفات، كانت هذه الباخرة هي التي ستقل الشاب هائل مع رفاقه، وكان عليها في نفس الوقت أخوه عبده سعيد وزوج أخته عبده نعمان، يعملان فيها ضمن طاقمها الخدمي، ويا لفرحة الشاب هائل المتوجس من أهوال الغربة آنذاك، فقد لقي أخاه وصهره.
وابتدأ المشوار الأول نحو فرنسا للعمل، في عشرة أيام، وما أن وصل مدينة مرسيليا التجارية التي تضج بالمغتربين العرب وغير العرب حتى كانت السلطات الفرنسية قد اتخذت قرارا بترحيل كل العمال في الميناء، وبينما هو في أحد المقاهي ينتظر أخاه إذ بالشرطة تهاجم المقهى وتعمل على ترحيل من فيه من العرب لولا أن صادف ضابطا يمنيا في الشرطة الفرنسية أشفق لحاله فشفع له عند زملائه الضباط للإبقاء عليه، وهو ما كان، فعمل في الباخرة مزودا إياها بالفحم، وهو من الأعمال الشاقة والمرهقة.
لم يدم عمله طويلا في هذه المهنة الشاقة، انتقل للعمل في أحد مصانع الزيت، وظل فيه خمس سنوات متتالية، بعدها شده الحنين إلى الوطن، فعاد وقد بلغ السابعة والعشرين من العمر، وظل أكثر من سنة في القرية، ثم عاد في غربة ثانية إلى مرسيليا خمس سنوات، وخلال هذه الفترة، وتحديدا في العام 1931م رُزق بابنه الأول أحمد، وهو في الغربة.
وإلى بربرة في الصُّومال كانت الغربة الثانية للتجارة في الجلود، منذ عاد من مرسيليا، حتى نهاية العام 1937م. ليؤسس أول عمل تجاري له في عدن مطلع العام 1938م، وقد ذاع صيته، تاجرا أمينا خلوقا، وكانت هذه السمعة الطيبة رأس مال بحد ذاتها، فعرض عليه أحد التجار الفرنسيين في عدن وكالته للتجارة في الصومال، واستطاع منافسة كبريات الشركات التجارية آنذاك.
في العام 1950م، قررت الأسرة فتح فرع تجاري لهم في شمال الوطن، ففتحوا فرعا في مدينة الحديدة، وفي العام 1952م تغير اسم النشاط التجاري من هائل سعيد أنعم وإخوانه إلى هائل سعيد أنعم وشركائه.
داعم الثورتين
لما كانت الأمانة هي المعيار الأول في التعامل لدى هذا التاجر نما المال بسرعة، وتزايدت ثقة الناس به، وصار يُشار إليه بالبنان، واحدا من رموز المجتمع التجارية والنضالية.
دعم المرحوم وشركاؤه المناضلين الأحرار من وقت مبكر، أحرار سبتمبر وأكتوبر على حد سواء، ولهذا فقد صدر قرار المندوب البريطاني في عدن أواخر سنة 63م بترحيله من عدن، لدوره في دعم الثورتين، ولدوره قبل ذلك في دعم الأحرار.
عاد إلى عدن بعد نجاح ثورة أكتوبر، إلا أنه لحقه قرار التأميم عام 69م، فحول نشاطه التجاري إلى شمال الوطن، وأسس أول مشروع صناعي له في الحوبان سنة 1970م، ولم يعد إلى عدن إلا بعد قيام الوحدة عام 90م. وحينها أسس الجمعية الخيرية، والتي لا تزال غيثا مدرارا إلى اليوم.
مجموعة هائل والتنمية الثقافية في اليمن
في اليمن.. يكادُ إسهام رأس المال في الثقافةِ يكون منعدمًا إذا ما استثنينا بيوتاتٍ تجاريّةٍ عدنيّةٍ وحضرميّةٍ محدودةٍ جدا، إلى جانب مجموعة هائل سعيد أنعم وشركائه التي تتصدرُ كلَّ المجموعاتِ التجاريّةِ في الاهتمام بالشّأنِ الثقافي والعلمي، ودعم المثقفين، إلى جانب اهتماماتها الإنسانية والخيرية.
في الحقيقةِ تظلُّ مجموعة هائل سعيد أنعم وشركائه سيدة المجموعات التجارية، بما تحمله من نبلٍ أخلاقي، والتزامٍ اجتماعي تجاه المجتمع، منذ تأسست وحتى اليوم، وفتشوا في كل محافظة من محافظات اليمنِ ستجدوا مشاريع بيت هائل في كل محافظة، وفي مختلف الجوانب: صحية، تعليمية، اجتماعية، ثقافية.
هناك مؤسساتٌ قائمة على عطاءاتِ هذه المجموعة وخيرها. وهناك بيوتاتٌ وأُسرٌ أيضًا قائمة على كرم وعطاء هذا البيت منذ عقود في مختلفِ مناطق اليمن، بلا تعصّبٍ أو تحيزٍ لهذه المدينة أو تلك، خلاف المجموعات التجارية الأخرى من "حمران العيون" الذين لا يخطرُ ببالهم شيءٌ اسمه “التزام اجتماعي”، أو “مبادرات إنسانية”، أو “ثقافية".
مجموعة هائل سعيد أنعم الوحيدة من بين المجموعات التجاريّة اليمنية التي لها جائزةٌ علميّة محترمة باسم المؤسس، ولها مؤسسة ثقافيّة عملاقة أيضا باسمه، ولها جمعياتٌ خيريّة، ولها قبل كل شيءٍ احترام الناس وحبهم وتقديرهم. إنها أخلاق المؤسس الأول ووصاياه.
رحم الله شيخ المحسنين المرحوم هائل سعيد أنعم الذي رحل إلى ربه في ابريل 1990م، وقد شيد اسمه خالدا في صروح التاريخ، وحفظ الله أنجاله وأحفاده النبلاء الذين ساهموا في سبيلِ نهضةٍ اقتصاديّة وطنيّة وثقافيّة وإنسانيّة باذخة منذ عقود من الزمن وإلى اليوم. وصدق الشاعر:
وخير الناس في الــــــورى رجلٌ
تُقضى على يديه للناس حاجات
د. ثابت الأحمدي