المناضل القاضي عبدالسلام صبرة..
الأب الروحي للمناضلين الأحرار
المتأمل في تاريخ اليمن السياسي والثقافي من عقود طويلة يستشف ظاهرة متكررة على الدوام لطالما تتالت كثيرا، ولا تزال، هذه الظاهرة هي تصدي أقيال اليمن الكبار للمشروع الإمامي الكهنوتي السلالي، ابتداءً من الفارس والشاعر اليماني الكبير أحمد بن يزيد القشيبي مطلع القرن الثالث الهجري وحتى اليوم، فما من يماني أصيل وصاحب رؤية ثاقبة إلا ووقف ضد هذه الجماعة ومشروعها. موقف يتكرر في كل زمان ومكان.
ومن أحرار اليمن وكبار رجالاتها الأحرار في القرن العشرين المناضل الكبير القاضي عبدالسلام صبرة.
عبدالسلام محمد حسن صبرة، من مواليد عام العاصمة صنعاء في العام 1912م، والده العلامة محمد صبرة، أحد أعلام المذهب السني في صنعاء القديمة، وصاحب أكبر مكتبة شخصيّة في صنعاء، ويجيد من اللغات إلى جانب العربية أيضا: التركية والفارسية والفرنسية التي تعلمها على يد المعلمين الأتراك في صنعاء، كما كان يجيد لغة المسند اليمني القديم، ويمثل مرجعية لغوية فيه.
التحق صغيرا بمعلامة الأبهر، ثم معلامة توفيق، ثم مكتب بير العزب، ثم مكتب الفليحي، في صنعاء، إذ أتقن علوم الدين واللغة والحساب، متأثرًا برجالات التنوير الديني في اليمن، مثل ابن الأمير الصنعاني والمقبلي والجلال والشوكاني، وجميعهم من المجتهدين الكبار الذين شكلوا مدارس فكرية وثقافية رائدة، لا تزال آثار بعضها ممتدة إلى اليوم، وخاصة المدرسة الشوكانية.
عمل لأول مرة موظفا في بلدية صنعاء كاتبا، ثم أمينا لصندوق البلدية، ثم رئيسا لها، ثم وكيلا لعاملها، وذلك في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أثناء حكم الإمام يحيى حميدالدين، متزاملا ومرتبطا ارتباطا روحيا بالرعيل الأول من الزعماء الأحرار، كالمطاع والمحلوي والشماحي والسنيدار والعزب، ثم الشيخ حسن الدعيس، وغيرهم من الأحرار.
كان يجمعهم أحد مساجد صنعاء بصورة يومية. وهؤلاء من رجالات المرحلة الأولى من النضال قبل أن تتشكل الموجة الثانية، متمثلة في: الزبيري وأبي طالب، ومحي الدين العنسي والخالدي، وغيرهم.
وكانت بيت صبرة من البيوتات النضالية المعارضة لحكم الإمام يحيى. وقد تعرض لبطش وتعذيب الإمام يحيى في العام 1944م، مع رفاقه الأحرار في تلك الواقعة الأليمة التي سمعتُ تفاصيلها منه شخصيا ذات لقاء خاص في منزله قبل وفاته بسنوات قليلة رحمه الله، إضافة إلى ما تعرض له عقب ثورة 48 الدستورية أيام حكم الطاغية أحمد.
وعودة إلى أبشع مأساة إنسانية ارتكبها طاغية غشوم في تاريخ الطغاة هي مأساة نوفمبر 1944م في حق أبرز وأكبر وجوه اليمن ورجالاتها الأحرار: القاضي عبدالسلام صبرة، القاضي إسماعيل الأكوع، الشيخ جازم الحروي، القاضي محمد السياغي وأخواه يحيى وحمود، وآخرون، تم ربطهم في سلسلة حديدية طويلة، وعلى كل رقبة من رقابهم طوق حديدي مع القفل الكبير، فارضا عليهم السفر على الأقدام من صنعاء إلى تعز، في أسوأ مسيرة شاقة استمرت ثمانية أيام، لم يكن زبانية الإمام يفكون عنهم قيودهم حتى وقت قضاء الحاجة، مستمرين في هذه المعاناة حتى تفطرت أقدامهم وتورمت أجسادهم، بعد أن ضموا إليهم كوكبة أخرى من رجالات إب المسجونين في سجون الإمام، من بينهم الشيخ الثائر حسن الدعيس، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، والشيخ عبداللطيف بن قائد بن راجح، والشيخ حسن البعداني، وآخرون، تم إيصالهم إلى تعز، حيث يقيم ولي العهد الطاغية أحمد. وبحسب القاضي الإرياني في مذكراته: كان المعتقلون زهاء ثلاثين شخصا. وفي تعز تم إضافة قيود حديدية على أرجلهم أيضا ونقلهم إلى سجون حجة في رحلة دامية استمرت اثني عشر يوما، بين حر النهار وبرد الليل. مشهد يدمي القلب، لم يرتكبه طاغية من قبل.
عقب قيام ثورة الدستور في العام 1948م كان المناضل القاضي عبدالسلام صبرة أحد أحرارها الذين فروا أولا إلى خارج صنعاء، وفي حزيز تم القبض عليه وإعادته إلى صنعاء مع آخرين، وقد تم تعزيرهم والطواف بهم بين الحواري والأسواق وتحريض العامة على رميهم بالحجارة، فتم رميهم بالحجارة حتى سالت الدماء من رؤوسهم وأجسادهم، إضافة إلى سيل من الشتائم التي طالتهم من قبل العامة في الأسواق.
وليت الأمر توقف عند ذلك؛ بل تم تقييدهم بالأغلال الحديدية وإرسالهم إلى سجون حجة مرة أخرى، وفي سجن نافع الشهير بحجة، تلقوا من العذاب ما لا يخطر على بال، السجن الذي تكومت بداخله جثث المئات من أبناء الزرانيق بتهامة. وظل فيه المناضل عبدالسلام صبرة ثلاث سنوات، تم نقلهم منه بعد ذلك إلى سجن القاهرة في نفس المدينة، والذي بقي فيه حتى العام 1955م، أي بعد مضي سبع سنوات متتالية بين زبانية السجن الغلاظ. ومع هذه الوحشية كلها داخل السجن، وتلك المرارة التي نزلت بالأحرار يذكر رفاقه عنه أنه كان دائم الابتسامة، دائم التفاؤل، يزرع في نفوس رفاقه روح التحدي والمقاومة والتضحية، فلقبوه بالسعادة الخالدة، مرددا دائما: إن الجسد قد يتعذب؛ لكن سعادة الإنسان كلها في روحه.
ولم يكل أو يمل، أو تنل منه تلك السنون بجناياتها الدامية؛ بل منحته مزيدا من القوة والدافعية باتجاه مواصلة مسيرة النضال، جنبًا إلى جنبٍ مع رفاقه الأحرار حتى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م، وكان المناضل صبرة يمثل فيها الخيط الناظم لجميع الأحرار، من ضباط ومشايخ وتجار وسياسيين، والمرجعية الروحية الأولى، وهمزة الوصل بين الجميع، وكانت كثيرٌ من الجلسات السرية تتم في ديوانه، إلى حد أن سمى البعض ديوانه بديوان المؤامرة. وفيه كتبت بعض الأدبيّات الأولى للثورة، وبحسب المناضل محمد الفسيل: كان الثوار قد أعدوا كل شيء لتفجير الثّورة؛ ولكن تردُّدَ اللواء/حمود الجائفي عن قيادة الثّورة وضع الضُّباط الأحرار في موقفٍ خطرٍ، فلم يعد في أيديهم إلا القيام بالثورة، ولذلك قرروا تكليف الأخ عبدالسلام صبرة بالتواصل مع العميد عبدالله يحيى السلال الذي كان ــ حينذاك ــ رئيس حرس البدر وإقناعه بقيادة الثورة، وقد وافق على ذلك بشرط أن يعرف كل الترتيبات التي اتُخِذت لقيام الثّورة وأسماء الضُّباط الأحرار، وذلك في يوم الثلاثاء الموافق 24 سبتمبر 1962م".
قامت ثورة سبتمبر وتأسس النظام الجمهوري، وفيه شغل المناضل صبرة عضوا في مجلس قيادة الثورة، ثم عضوا في مجلس الرئاسة، كما شغل منصب وزير شؤون القبائل ووزير الأوقاف في آنٍ واحد، ثم نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الداخلية، ورأس حكومة تصريف الأعمال لأكثر من مرة أثناء الفترات الانتقالية التي جرت خلال الستينيات وبداية السبعينيات، ثم مستشارا لرئيس المجلس الجمهوري عبدالرحمن الإرياني.
لقد أسهم المناضل صبرة بدور إيجابي فاعل في مسيرة النضال الوطني، فكان أحد أعلام الحركة الوطنية الكبار، رمزًا خالدًا في ذاكرة التاريخ، وعلما هاديًا في وجدان الشعب.
رحم الله المناضل الكبير، البار بوطنه وأمته القاضي عبدالسلام صبرة الذي غادر دنيانا في العام 2012م، عن عمر ناهز مئة عام، بعد رحلة كفاح استثنائية، ستظل ملهمة لأجيال اليمن الكبير.
د. ثابت الأحمدي