حين تقف أمام الهرمِ الشامخ محاولا استكناه حقيقته ومعرفة تفاصيله فحتما لن تقف إلا أمام وجه واحد من وجوهه فقط، وللإحاطة به لا بد من السير حوله كثيرا وقد لا تحقق منيتك بهذا السير.
نحنُ اليوم أمامَ هرم يمني وعربي شامخ، متعدد الوجوه، متعدد الاتجاهات، إنه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح، رحمه الله. المقالح الأديب، المقالح الشاعر، المقالح المفكر، المقالح المناضل السياسي، المقالح المثقف والتربوي والمؤرخ.
ولد في العام 1937م في منطقة إب، من أسرة مشيخ، ميسورة الحال، وقد بدأ كتابة الشعر عندما بلغ الرابعة عشرة، بعد أن درس على مجموعة من العلماء والأدباء في مدينة صنعاء التي تخرج من دار المعلمين فيها عام 1960، وواصل تحصيله العلمي حتى حصل على الشهادة الجامعية عام 1970، من جامعة عين شمس في القاهرة، وفي عام 1973 حصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب جامعة عين شمس، ثم درجة الدكتوراه عام 1977 من نفس الجامعة، وترقى إلى الأستاذية عام 1987.
لما يقارب خمسين عامًا ظل المقالح متصدرًا منصة الثقافة اليمنية، مرجعية من مراجعها وأستاذا لأساتذتها، ينظم القصيدة ويكتب المقال ويسبر أغوار البحث.
المقالح المناضل ابن المناضل الذي واجه الإمامة من وقت مبكر، الشيخ صالح بن مرشد المقالح، غائصا في تاريخ اليمن وآدابه، ومنقبا عن تاريخ الحركة الوطنية منذ بواكيرها الأولى، إذ مثل مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي رأسه حتى وفاته المنجمَ الثر والمنهل العذب لتاريخ اليمن وآدابها من خلال جملة الإصداراتِ التاريخية والثقافية التي تبناها المركز، ومثلت مرجعا للباحثين والكتاب والمؤلفين منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. ويُعد أول مركز علمي في الجزيرة العربية، يضم كوكبة من أكفأ العناصر الأكاديمية والعلمية التي عملت تحت إدارة الدكتور المقالح حتى وفاته.
للمقالح ما يزيد عن خمسة وثلاثين إصدارا أدبيا وتاريخيا وثقافيا وشعريا، وله مئاتُ الدراسات والأبحاث، ومئات المقالات المنشورة، كما أنه قد أشرف على عشرات الرسائل والأطاريح الأكاديمية، وجميعها مثلت إضافة نوعية للمكتبة اليمنية والعربية، كما أماطت اللثام عن جزء كبير من تاريخ اليمن الغائب المغيب من قرون طويلة.
إضافة إلى ذلك صدرت العديد من الدراسات الأكاديمية المحكمة عن شعره، محليا وعربيا. كما حصل على العديد من الجوائز الأدبية المحلية والعربية والعالمية.
المقالح والشعر
يعتبر الدكتور عبدالعزيز المقالح من رواد الشعر العربي المعاصر وأعمدته الكبار، جنبا إلى جنب مع رفيق دربه عبدالله البردوني، كما يُعتبر من مجددي القصيدة العربية في الشكل والمضمون، كأبرز داعية للحداثة الشعرية في اليمن وأستاذهم الأول.
تمثل قصيدته "عاش الشعب" واحدة من أيقونات القصائد السبتمبرية اليمنية الرائعة التي نظمها يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 62م، أي بعد ثلاثة أيام من قيامها، ومنها:
وثأرْتِ يا صنعا، رفعْتِ رؤوسَـنا بعدَ انكسارْ
أخرجْتِ منْ ظلمـاتِكِ الحُبْلَى أعاصيرَ النَّهارْ
وولـدْتِ هذا اليـومَ بعدَ ترقُّبٍ لَكِ وانتظارْ
فأتى كما شاءتْ إراداتُ المنى، وهجَ انتصارْ
يوماً نقدِّسُهُ، ونرضِعُـهُ أمانيـنا الكبارْ
يوماً سيبقى خالدَ السّاعـاتِ، موصولَ الفَخارْ.
ـــــــــــــــــ
سَلِمَتْ أياديهم بُناةُ الفَجْرِ، عُشّاقُ الكرامةْ
البـاذليـنَ نفوسَهم للهِ في ليلِ القيامةْ
وضعوا الرُّؤوسَ على الأكُفِّ، ومرَّغُوا وجهَ الإمامةْ
صنعوا ضُحَى سبتمبرَ الغالي لنهضتِنا علامةْ
خرجوا فلم تَيْبَسْ على أفواهِهم شمسُ ابتسامةْ
يتمرَّدُونَ على الظلامِ، ويبصقونَ هنا نظامَهْ.
ــــــــــــــــ
أينَ القصورُ؟ تناثرَتْ رُعْباً، وألوانُ الرِّياشْ؟
أينَ الذينَ تألَّهُوا؟ سقطوا كما سقطَ الخُفاشْ
في نارِنا احترقوا، كما احترقَتْ على النارِ الفَراشْ
ماتَ الطُّغـاةُ الظالمـونَ، وشعبُنا المظلـومُ عاشْ.
ـــــــــــ
اليمن في ضمير المقالح
احتلت اليمن مكانة كبيرة في ضمير الشاعر عبدالعزيز المقالح فنذر لها حياته كلها، نجد اليمن في كتاباته، كما نجدها في شعره، والحقيقة نجدها في ضمير، أو نجد ضميره في اليمن، لا فرق، كما تقرر هذه القصيدة:
في لساني يمن
في ضميــري يمـن
تحت جلدي تعيش وتحيا اليمن
خلف جفنــي تنـــام وتصحــو اليمن
صــرت لا أعــرف الفـــرق مـا بيننــــا
أيّنــــــا يــــــا بــــــــلادي يكـــــــون اليمـــن
كما يتجلى وجدانه الوطني وضميره اليمني في قصيدة "لا بد من صنعاء"، وفيها:
يوماً تغنى في منافينا القدر
لابد من صنعا وإن طال السفر.
لا بد منها .. حبنا أشواقها
تذوى حوالينا إلى أين المفر؟
إنَّا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفون فأورقت وزكا الثمر
وبكل مقهىً قد شربنا دمعها
لله ما أحلى الدموع وما أمر..!
وعلى المواويل الحزينة كم بكت
أعماقنا وتمزقت فوق الوتر
هي لحن غربتنا ولون حديثنا
وصلاتنا عند المسرة والضجر
مهما ترامى الليل فوق جبالها
وطغى وأقعى في شوارعها الخطر
وتسمر القيد القديم بساقها
جرحا بوجه الشمس في عين القمر
سيمزق الاعصار ظلمة يومها
ويلفها بحنانه صبح أغر
هو ذا يلملمنا من الغابات من
ليل الموانئ من محطات البشر
ليعيدنا لك يامدينتنا وفى
أفواهنا قُبَل وفى الأيدي الزهر
صنعاء وإن أغفت على أحزانها
حيناً وطال بها التبلد والخدر
سيثور في وجه الظلام صباحها
حينًا ويغسل جدبها يوما مطر.
وكعادة كبار القوم فقد كان الهم العربي حاضرا في شعر الدكتور عبدالعزيز المقالح، وقضاياه الكبرى، كما تشي بذلك كثير من قصائده، ومنها قصيدة العبور، التي نظمها في مناسبة انتصار الجيش المصري على الجيش العدوان الإسرائيلي في 6 أكتوبر 73م، ومثل هذا اليوم انتصارا عربيا، لا مصريا فقط، وفي هذه القصيدة يقول:
أبطالنا عبروا مأساة أمتهم
ونحن في كفن الألفاظ نحتضرُ
تقدموا عبر ليل الموت ضاحكةً
وجوههم، وخطوط النار تستعرُ
وأشعلوا في الدجى أعمارهم لهباً
للنصر واحترقوا فيه لينتصروا
عبورهم أذهل الدنيا وموقفهم
تسمرت عنده الأقلام والسّيَرُ
وددت لو كنت يوماً في مواكبهم
أو ليتني كنت جسراً حينما عبروا
ونالت القضية الفلسطينية جزءا من اهتمام الأديب والشاعر المقالح الذي نظم فيها قصيدته "من أجل فلسطين" والتي تعتبر من أولى قصائده، كما له قصيدة أخرى أيضا بعنوان: "غَزَّةُ تكتب قصائدَ الدّم والانتصار"، وفيها يقول:
ماذا أكتُبُ؟!
صار الحِبرُ دَماً
والماءُ دَماً
والكلماتُ دَماً
والعالَمُ غابَةَ قَتلٍ ومقابر..!
أين أوَاري وَجهِي
أدفِنُ كلماتي
خَجَلاً مِن أطفالكِ يا غزَّة
يا أمَّ الأبطالِ المَنذورين لِتَحريرِ الأرضِ
وقَتلِ الوَحشِ الصّهيونيِّ
الغادر.
***
رحم الله كبير اليمن وعظيمها وأيقونة أدبها وثقافتها الدكتور عبدالعزيز المقالح، وأسكنه فسيح جناته، فقد غادر دنيانا في 28 نوفمبر 2022م، في مدينة صنعاء التي عشقها حد الثمالة ولم يغادرها خلال كل عقوده الأخيرة، تاركا وراءه فراغا موحشا من الصعب أن يلتئم على المدى القريب.
د. ثابت الأحمدي