يتأمل خامنئي في تجاعيد يديه وقسوة العمر في فرض شروطه ووهنه، ثم ينظر إلى شاهد قبر سليماني ورئيسي وعبداللهيان وكذلك نصر الله، فلا يجد في من تبقى من رموز منظومته العجوز من يحظى بجاذبية وقدرة على تجديد مشروع "الثورة" التي تعيش شيخوخة مبكرة في منتصف العمر وتفقد سحريتها لدى جيل الشباب بعد نحو ٤٥ عاما من دفع البلد بوقود الشعارات والأحلام التوسعية.
حاليا، وفي لحظة مفصيلة، ترى إيران في الحوثي وصعوده وجموحه قصة شبابها، يُذاكر عبدالملك الحوثي جيداً في دفاتر الثورة الاسلامية القديمة ويقتفي خطاها ويتقمص دوراً مزدوجاً للخميني والخامنئي في الثورية والتنظيم والتنظير لمواجهة "الاستكبار" مأخوذاً بالتحشيد والنّسق الشاب المتعصب من القيادات الميدانية، والجغرافيا والقدرات النوعية التي وفرها الحرس الثوري في وقت قصير.
في ٢٠١٩، وبعد تقييم السنوات الأربع للحرب في اليمن، قرر سليماني نقل مستوى الثقة بالحوثي الى مستوى أعلى بعدما تأكد له توفّر الأرضية المناسبة، سرعة التعلّم وحدة القيادة وتسلسل التنظيم واستيعاب تناسق الأدوار التي اختبر الحوثيون فيها جيداً هو ونصر الله، وتسليم الحوثي بالمرجعية والقرار الاستراتيجي لهما، والتقاطهم السريع للفكرة الأهم "مواجهة الاستكبار العالمي وأدواته في المنطقة"، واستعدادهم لأي دور بأي مستوى ضد دول المنطقة وهو ما تم بعدها بأشهر بالهجوم على "ارامكو" من العراق والإعلان من الحوثيين!.
في الأساس كانت نشأة الحوثي مرتبطة بالمحور، وبعكس ما يصل اليه بعض "الباحثين الكسالى" أو الصحافيين الأجانب، بأن الحوثيين مستقلّون عن طهران، فإن ارتباط الحوثي بإيران وحزب الله والمحور هو أعمق مما يتصورونه، إذ أن الحوثي نشأ أساسا بمساعدة المحور وعلى أيادٍ مشتركة تمثل كامل الأذرع الإيرانية حتى ذلك الحين ما بعد ٢٠٠٦، اشترك إيرانيون ولبنانيون وعراقيون في تدريب الحوثيين وبناء ورش التصنيع منذ ما قبل ٢٠١٠، وبعدها تدريب الحوثيين في ضواحي طهران ومشهد وقم وأصفهان والضاحية الجنوبية وسوريا وبغداد وجرف الصخر بالعراق، وبعد ٢٠١٥ بنى المحور بإشراف سليماني قدرات الجماعة الاستراتيجية من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والدفاعات الجوية ونقل نسخة من معظم ما يمتلكه الحرس الثوري من أسلحة وتكنولوجيا متقدمة إلى الحوثيين ومنعهم في لحظات معينة من استكمال التفاوض مع الحكومة الشرعية والتحالف في اللحظات الأخيرة مقابل رفع مستوى الدعم ليتحولوا إلى "عمق" للمشروع الايراني في المنطقة وذراعاً طويلة وغير مكلفة.
بالإضافة إلى أن الظروف التي رافقت هذه التدخلات الإيرانية لتطوير بنى وهياكل الحوثيين بمراحلها المختلفة وحساسيتها وكلفتها اللاحقة المتوقعة قد دفعت طهران الى إخفاء علاقتها المباشرة وتحرص ولا زالت على الإنكار؛ مدفوعة بتجرد تمليه العقيدة أولا، والثمن، وكذلك الخيارات التي يوفرها بقاء الحوثي على مسافة معينة، وفي المقابل فإن هذه المسافة وفرت للحوثي عنصر مزايدة وإرباك أمام خصومه المحليين، وفي نفس الوقت أمام بعض المتابعين بكسل وسطحية، لكن تظل الحقيقة أن علاقة طهران بالحوثي عمليا توازي غيرها، وتدار بقنوات ظل وبسلاسة، ولا يشترك فيها حتى أكبر ممثلي الحوثي سياسيا.
الآن وبعد ضعف حزب الله والخسارة الأكبر للمحور الإيراني بالمنطقة العربية بمقتل قائده حسن نصر الله، بعد عامين على خسارة سليماني، وبعد خسارة إيران لسوريا، وتصاعد التهديد الذي باتت تواجهه بعد طوفان الأقصى وانكشاف جزء من دعايتها باسم القضية الفسلطينة بترددها واستجابتها المتدنية والشكلية للمقاومة الفلسطينية من باب إسقاط الواجب إزاء ما يحدث بغزة، بعد كل هذا جاء الوقت للاستفادة من الحوثي ك"طلقة أخيرة في بندقية آيات الله" بحسب تعبير السياسي اليمني ياسين سعيد نعمان.
منذ سقوط الأسد رفع الحوثي وتيرة عملياته، وتضاعف تأثيرها أيضا، وهو بهذا مدفوع بخوف طهران من أن صمت تروس المحور قد يغري بالانتقال الى قلب المحرك، وضرب مقدراتها وربما يصل الحال الى تهديد النظام، لذلك فهي الآن (طهران) تدفع الحوثي بالاستفادة من نزوع وجموح ذاتي لديه الى أقصى طاقته الفعلية، للتغطية على انسحاب المحور، كما يفعل أي مقاتل عندما يحتاج الى مترس يواصل إطلاق النار ليوفر مساحة لبقية القوة لترتيب انسحابها او استدارتها، وهذا ما يقوم به الحوثي الآن.
الآن، وبينما أصبح الحوثي قصة تشغل القوى العالمية وتثير حفيظتها، فإن صانع القرار في طهران وفي غمرة قلقه ومخاوفه على مصير نظام "الولي الفقيه" يستطيع انتزاع لحظة ابتسامة وهو يرى ثمار استثماره الطويل والسخي في صناعة المخالب للحوثي، والتي بدونها كان الحوثي الآن يقاتل في العمشية بحرف سفيان وأطراف صعدة، في أحسن الاحوال.
في المراحل المبكرة كان رجلا المحور سليماني ونصر الله يصممان الحوثي ليكون مشكلة للسعودية وفي خاصرتها، مثلما أن حزب الله مشكلة لإسرائيل وفي خاصرتها، لكن المال الذي يوشك أن ينهي رحلة المحور بكله جعل طهران بعقلها التكتيكي الذي يجسده رجال المرحلة الحالية (الحوثي) سلاحا لكل شيء؛ ومن منطلق هذا وقت كل رصاصة في الجعبة، لعل الطلقة الأخيرة من القوة الإضافية تنجح في درء ما يعتقدونه خطراً داهماً وشبه حتمي.
من صفحة الكاتب على موقع إكس