إلى عموم اليمنيين.. إما أن نكون أو لا نكون أمام نذر الفناء
ها نحن نقف في مفتتح سنتنا الجديدة، ولأسباب ذاتية ومعنوية أكثر من كونها مادية، أجد في هذا اليوم الذي لا يختلف برده عن برد اليوم السابق أو التالي في شيء، مناسبة لأكتب بطاقة المصارحة هذه كما لو ان الأيام لها مواقيت ومفترقات خلافا لانسيابية الزمن. ضمن مجموعة، ستكون هذه البطاقة الأولى موجهة إلى عموم اليمنيين الذين أنتمي إليهم وأهتم بشؤونهم، وأكرّس جل وقتي وجهدي لهم بحثاً وكتابة وتفاعلاً.
إننا في يومنا الأغر هذا نقترب من إتمام 14 عامًا بعد شهرين منذ أن تفجرت حركة احتجاجية أطلقنا عليها "ثورة الشباب" انتعشت معها الآمال بالتغيير وانخرط اليمنيون في حوار سياسي مشهود سرعان من انتكسنا على رؤوسنا بسبب الافقار للكفاءة الإدارية وعدم استشعار المسؤولية الوطنية والتاريخية ومتاهات المحاصصة والفساد، وأعظم من كل هذه الموبقات نزعة الانتقام. كما أننا، منذ سبتمبر الماضي، قد أكملنا 11 عامًا من المكابدة المريرة التي يعيشها اليمنيون، منذ أن أشعل الحوثيون حربًا أهلية في اليمن أدخلت بعض اليمن في سرداب وهم التمكين الإلهي المظلم وقبو الاصطفاء العفن. وبعد ثلاثة أشهر، سنكمل 10 سنوات من الزمن منذ أن تشكّل التحالف العربي لتنفيذ عملية عسكرية تحت اسم "عاصفة الحزم" لمساندة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي لصد الحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح عن عدن واستعادة الدولة والتي وإن كانت قد أحسنت البدايات إلا أنها وضعت اليمن طريحاً مبقورة البطن دون إتمام العملية الجراحية اللازمة لإنقاذ المريض.
هذه السنوات ليست مجرد أرقام، بل هي سنوات موسومة بالصراعات والحروب. ونحن، كيمنيين، نعرف جيدًا معنى الحرب، وما تجلبه من مآسٍ ودمار وتمزق وتشريد.
لطالما اهتممت باليمن أرضًا وإنسانًا، متخففًا من الالتصاق بالمشاريع الضيقة التي تختبئ في شقوق الماضي، ومن المصادر التي تسلب الإرادة وتجنبت الانغماس في أيديولوجيات التجييش والانتماءات الزائلة التي تتحرك بفعل انفعالات غليانية، أكتب اليوم كمن يقف على حافة الهاوية، وأنظر من منفاي الفرنسي، الذي لا يختلف عن غيره من المنافي إلا في الدرجة وليس في النوع. في المنفى، يُختزل الفرد إلى مجرد رقم، يُنظر إليه إما كعبء، وهذا هو الغالب، أو كفرصة اقتصادية يُنتظر منه أن يسهم في إدارة اقتصاد البلد المضيف. تُفرض عليه قيود قانونية واجتماعية تكبّل حركته وتعبيره، ويتعرض للتشيؤ. وحتى إن حظي ببعض الأمان وحقوق التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، فإن هذا لا يمنع من أن تختزل أبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية، وبالتالي الإنسانية وتحرمه من كينونيته الكاملة.
أتابع ما يجري في اليمن ولليمن بشكل خاص، عبر القراءة والمشاهدة دون كلل. وقد أتيحت لي في ما مضى من الوقت سيما، خلال العام المنصرم فرصة لقاء شريحة كبيرة من اليمنيين من مختلف المشارب والتخصصات والاهتمامات، خاصة أولئك القادمين أو القادمات من اليمن ذاتها. كنت متلهفًا للاستماع إليهم حول أوضاع اليمن حاليًا، مركّزًا على تفاصيل دقيقة في أحاديثهم، تلك التفاصيل التي أجدها أفضل عندي من كل ما أقرأه، إذ تجعل منهم عيني التي أرى بها وأذني التي أسمع بها. من خلالهم تتكون لدي صورة أدق عن حال اليمن الآن وإلى أين هي متجهة.
قابلت سياسيين، وكبار موظفي دولة، وباحثين، ورجال أعمال، ونشطاء في منظمات. لكن لقاءاتي الأكثر حساسية كانت مع العاملين في مجال حقوق الإنسان، حيث يرصدون وينقلون ما يجري من انتهاكات ويتابعون الأوضاع عن كثب.
وهنا أرغب أولاً في إعادة رسم المشهد اليمني بأقل الكلمات الممكنة، مبتدئًا بالنقطة المتعلقة بحقوق الإنسان والوضع الإنساني وصولاً الى السياسي ووقوفاً عن الواجب والمقصود.
من خلال ما فهمته مما اطلعت عليه وما سمعته من الآخرين، فإن جميع الأطراف المتقاتلة - بلا استثناء - تورطت في ارتكاب سلسلة من الانتهاكات المروعة، من قتل للأنفس، واستباحة للأموال والممتلكات، وهتك للأعراض، إلى الترويع والإرهاب. إلا أن الطرف الأكثر انتهاكًا، من حيث الكم والنوع، كان الجماعة الحوثية. لقد بلغ عنف الجماعة الحوثية ضد المواطنين مستوى غير مسبوق في تاريخ اليمن، إلى درجة تجعل المقارنة بينها وبين النظام السوري الساقط مسألة خلاف في الكم لا في النوع.
على الرغم من التقارير التي تصل إلينا، يبقى الجزء المسكوت عنه من هذه الانتهاكات الممنهجة هو الأخطر حيث اوغلت جنائيا وأمنياً في أساليب عنف لم يعهدها اليمنيون، وتجاوز لكل الخطوط الحمراء. كان اليمن قد نال أقبح التوصيفات في العقود الماضية بسبب الحروب الاهلية والمجازر والجماعات المتطرفة . لكن كانت للمرأة حرمتها وللبيوت قداستها وللأطفال حقهم في عدم المساس بهم. لكنننا دخلنا سجلات الأمم المتحدة كبلد يمارس بعض أبنائه أبشع الممارسات لأهداف سياسية.
واجتماعياً، لقد عملت هذه الجماعة على تقسيم المجتمع إلى شريحتين متعاديتين؛ إذ دفعت بجزء من اليمنيين، هم الهاشميون، إلى مواجهة عداء مع بقية اليمنيين عبر تجنيدهم وتجييشهم، وتكريس تشريعات تمييزية، وصنع طبقة ثرية من خلال إفقار الآخرين.
فكريا ومذهبياً، علاوة على ذلك، سعت الجماعة في بداية انبثاقها إلى اجتثاث السلفيين. وفي هذا الإطار، أصبحت اليمن برمتها تحت رحمة جماعات سلفية مسلحة، بعد أن كانت تلك الجماعات لاهوتية، تهيم في المعسكرات والقرى والمخيمات. ومع تسليحها بأقوى الأسلحة، اكتسبت عقيدة انتقامية خطيرة. مسخت هوية اليمنيين وارادت تغيير جلودهم فاستثارة اكثر اشكال التطرف الهوياتي عتاقة واستحضرت كل النقائض من أضابير الماضي. يا لبؤس الحصاد!
استفادت الجماعة الحوثية من ظرفية إقليمية ودولية ملائمة، منتشية بانتصارات سريعة. لكنها تناست أن اليمن بلد يعرف الثأر، وأن القبيلي لا ينسى حقه. من خلال ما سمعته من الناس، وما يغلي في نفوسهم من قهر مكبوت وحقوق مسلوبة وضغوطات وأساليب إخضاع، بت أخشى على من انساق خلف أوهام هذه الجماعة أو غرر به، من يوم تنقلب فيه الموازين، وتنفلت الأنفس في حمام دم مشؤوم.
إن العشرية التي مضت كانت عشرية التطييف والاجتثاث، بمعنييه المادي والمعنوي. وقد تراكم هذا القهر كالجبال، لكن لا أحد يأمن الدهر. وسبق لي أن كتبت: "هل من مُذَّكر؟".
لكن هذه العشرية لم تكن سوى عشرية الانتكاسات التي شهدها اليمن في كافة مؤشرات التنمية. فقد تراجعت حياة الناس، وانهار اقتصادهم، وتردى مستوى تعليمهم، وتضاءلت فرص الحصول على الطبابة. بلغ الحال باليمن حد الانزلاق إلى الهاوية، وكأنها تسير نحو اللاعودة.
اليمن في طور الاندثار. اليمن السياسي الذي نعرفه يذوي، والاقتصاد الذي كان قائماً يضمر، والإنسان اليمني الذي عرفناه ثقافياً وروحياً واجتماعياً يتفتت.
أتعامل مع تقارير المنظمات الدولية، التي تتقن عرضها بأسلوب خبراء التسويق والعلاقات العامة وحملات جمع التبرعات، بحذر شديد. لا أثق فيها تمام الثقة، لكنني أصدقها وأضعها في الحسبان. تشير تلك التقارير إلى مؤشرات خطيرة، منها انكماش الاقتصاد إلى حد الركود، انتشار البطالة، هجرة رؤوس الأموال، تسرب العقول والكفاءات، تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي، واتساع رقعة النازحين الذين أصبحوا بلا مأوى. كما تتحدث عن تراجع الإنتاج الزراعي، وعجز البلاد عن مواجهة تقلبات المناخ. ناهيكم عن قرى فقدت شبابها بالكامل بسبب الحرب، لتصبح مناطق مفتوحة لليتامى والأرامل.
لم يحدث أن بلغ اليأس بالناس هذا المبلغ من قبل. اليمن أصبحت بلد المخدرات، والقات يملأ أفواه الصغار والنساء. لم نسجل في السابق هذه المعدلات من الانتحار، أو أن يقتل الابن أباه أو أمه.
اليمن اليوم مجلس عزاء مفتوح؛ لا يوجد بيت إلا وأصابته مصيبة أو نكبة أو فقدان. الموت يترصد الناس في كل مكان، بأوبئة وأمراض، بانقطاع الطعام، أو بانعدام الدواء. النفس البشرية أصبحت أرخص من أي وقت مضى في اليمن.
أسأل الناس عن أحوالهم، فيجيبون بأن التسول بات في كل مكان. يعيدني ذلك إلى ذكريات مشاهد رأيتها قبل 35 عاماً، في المدن الكبيرة ومنها صنعاء، حين كان الناس يتكسبون من عاهاتهم. تجد شخصاً يحمل ورمه معه، وآخر يعرض علته للناس طلباً للمساعدة. تلك الأمراض التي سبق وأنذرت العالم، عادت لتطرق أبواب اليمن من جديد.
سياسياً، تتعاظم الكارثة. فلم يسبق أن سُلبت الإرادة اليمنية إلى هذا الحد، بحيث تصبح في خدمة نظام معادٍ للعروبة، ويُخرج اليمن من محيطها العربي، ليجعلها نقطة تهديد إقليمية ودولية دون أي مقابل، كما فعلت الحوثية عندما رهنت موقع اليمن الاستراتيجي على طاولة مقامرات النظام الإيراني الأناني بطبعه.
إلى جانب ذلك، لم يسبق أن تقيد الساسة اليمنيون في خياراتهم وتحديد مصيرهم كما هو حال الشرعية الحالية، التي تدين بوجودها للتوافقات الإقليمية، لكنها تعجز عن وضع مصالح شعبها في الاعتبار في المقام الأول.
أخطر ما يحدث سياسياً، بعد الانقسام والتشرذم والاحتراب وغياب مشروع وطني يأخذ اليمن واليمنيين في الحسبان، هو اختطاف ملف اليمن من الحقل السياسي إلى حقل غامض يديره غير السياسيين. لقد أصبح المشهد عرضة للتكهنات والشعوذة، حيث تتساقط القرارات والتحولات دون أدنى استشراف أو وضوح.
لم يكن اليمنيون من قبل بهذه الدرجة من التعتيم والتكتم المخيف على شؤونهم ومصيرهم. ولم يعلق حاملو الأقلام من صحافيين وكتاب ومنظرين في طائرة ورقية في مهب الريح من الترندات ومواضيع الاثارة وحملات التزييف والدعاية غير الرثة.
كل هذه هي نُذُر اندثار وخراب. قد يرى البعض في ذلك مبالغة عند الحديث عن الاندثار، لكن الحقيقة أن أمماً قد زالت واندثرت من قبل. لقد اندثرت لغات وثقافات، وأُبيدت شعوب بأكملها لأنها لم تُجهّز نفسها لمواجهة أسباب الخراب، وتركتها تتغلغل حتى فتكت بها.
تضمحل المجتمعات، ويتهدم العمران، وتنفق البهائم، ويهلك الزرع، وينقطع النسل. ونحن في طريقنا إلى هذا المصير، لأننا عندما نتوقف فقط عن المواكبة – ونحن عملياً لا نتوقف، بل نركض بسرعة جنونية نحو الرجوع إلى الوراء، مرجعيةً وظروفاً وأساليب حياة، مع استنهاض الأمراض واستفحال أسباب الموت والفناء – فإننا لا نتراجع فقط بل نتخلف.
ان الزيادة السكانية لا تعني الثبات والتصدي. لان أمل الحياة في تناقص والأطفال عرضة للأوبئة وشبح المجاعة يحوم فوق الرؤوس.
لقد حق علينا القول إنه نودي بنا إلى الخراب، فأسرعنا في الإجابة عليه.
أمام هذه الحقائق، أزعم أنني سأقول ما لا تجرؤ على قوله المؤسسات الدولية والمنظمات ومراكز الأبحاث التي تعمد إلى تخفيف لهجتها وتزويق كلامها واستدلال حديثها بما يخدم مجال منفعتها وتنال رضى من لا ينبغي طلب رضاه امام واجب العدالة والانصاف. سأقول لليمنيين أن يأخذوا بزمام أمورهم، ففرصة اليوم لن تكون كذلك في المستقبل، وإن عادت، فثمنها سيكون غالياً، ويعزّ تحصيلها. فإذا كان الثمن اليوم المال، فغداً سيكون النفوس الكثيرة، وإذا كان النفوس، فسيكون النفوس والأرض.
وعلى كل يمني أن يقف أمام مسؤوليته، فمن سارع إلى إشعال فتيل الحرب، عليه أن يبادر إلى سلام عادل يحقن الدماء ويصون الأنفس والكرامة والعرض. وعليه تقع مسؤولية كل هذا الخراب، وهو الأجدر بوقف آلة الموت والدمار هذه. عليه أن يبادر إلى إعفاء الناس من الانزلاق إلى الهاوية ومن هذا الموت البطيء. وعلى الأطراف الأخرى أن تتحلى بالمسؤولية التاريخية وتحدد ثمن الخلاص من خلال إشراك الناس وطرح مشروع بديل جامع.
لقد ضحى اليمنيون بالكثير في ما مضى من السنوات، ولا يرضيهم التوقف في منتصف الطريق أو التقهقر. على الحكومة، بالمقابل، إذا لم يفِ الحوثي بواجبه في الخروج باليمن من دوامة الحرب هذه، أن تتحمل مسؤوليتها وتنقذ اليمن من خلال قيادة إرادة اليمنيين لاستعادة دولتهم واستعادة المسار السياسي، والحفاظ على الكيان القانوني وبناء يمن يوفر لليمنيين المشاركة والحياة الكريمة، ويدمجهم في محيطهم العربي.
من صفحة الكاتب على موقع إكس