كثيرة هي الأشياء والأفعال التي نمارسها في حياتنا اليومية بدون أن نتوقف عندها بالسؤال والتأمل في معناها ومن ذلك؛ الشعائر والطقوس والعبادات والعادات والتقاليد والفنون الأدائية ومنها الرقص والبرع والموسيقى والغناء والأفراح والأتراح وكل شيء يفعل الناس الاحياء في حياتهم اليومية ونحن منهم طبعا . أننا نعيشها بوصفها ممارسة بديهية (هابيتوس) بالمعنى البوردوي - نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي صاغ المصطلح وعرفه ب "مجموعة العادات، المواقف، القيم، والميول التي يكتسبها الفرد نتيجة نشأته الاجتماعية وتجربته الحياتية" وحينما يتكرر السلوك الاجتماعي يصير عادة وحينما تتكرر وتترسخ العادة تصير ثقافة. وإذا تكيف الناس مع الثقافة واندمجوا في بنيته تحولت إلى عطالة بوصفها ميلا للعقل والنفس لمقاومة كل تغيير وتجديد في الحياة المعتادة .
والإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتميز عن الكائنات الأخرى بقلق البحث عن المعنى. الكائنات تعيش حياتها بطبيعتها الفطرية الغريزية ولا تتوقف أبدا عند معناها يرى هيدجر إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضع لوجوده معنى وبهذا يأتي قلق المعنى. أن وجود العالم هو وجودا حتميا أسبق من وجود الإنسان وليس بمقدور الإنسان غير منحه المعنى الذي يجعل الحياة الإنسانية ممكنة فجميع الكائنات الاخرى توجد في هذه العالم وفي متناول اليد لكنها لا تنشغل أبدا بمنح وجودها أي معنى غير الحضور في العالم بينما الوجود الإنساني(الدزاين Dasein) هو الكائن الوحيد القادر على التفكير والتساؤل حول معنى وجوده. يجب، حسب هايدجر، التمييز قبل كل شيء بين نوعين من الوجود: الوجود المبتذل والوجود الأصيل. في الأول، الإنسان هو مجرد رقم قابل للتبديل، نوع من الآلة بدون شخصية (das Man)، كيانه ينحصر في وظيفته الاجتماعية؛ ويعيش في عالم أليف، فالأشياء بالنسبة له أدوات وأواني، ويهيمن عليه الاهتمام بالخبز اليومي. فهو يعيش غير أنه لا يوجد. إن الوصول إلى الوجود الحقيقي يكون من خلال القلق. كل الناس قلقون، لكن معظمهم يرفض الاعتراف بذلك؛ إنهم يخفونه عن أنفسهم، ويدفعونه بعيدًا، ويقتصرون على الوجود التـ. ـافه. فقط الفلاسفة يوافقون على الترحيب بالمعـ. اناة وما تحمله من كشوف. فماذا يكشف. وبهذا المعنى نفهم نصيحة المنور الفرنسي جان جاك روسو حينما برر الحاجة الملحة إلى الفلسفة إذ كتب" أن أكثر الأشياء الحميمة بالنسبة لنا هي أكثرها بعدا عن فهمنا وهذا يستدعي الحاجة إلى الفلسفة كي نستطيع رؤية الأشياء التي نعيشها ونمارسها كل يوم في حياتنا"
تداعت إلى ذهني تلك الفكرة وأن أتمعن في ورقة الدكتور نزار غانم المزمع مناقشتها غدا عن ثأثير الفنون التعبيرية الأفريقية- ومنها؛ الرقصات الشعبية -بثقافة المدن اليمنية الساحلية؛ المقابلة لها في الضفة الأخرى من البحر الأحمر والمحيط الهندي وذلك في سياق جمع المادة التعقيبية عن هذه الدراسة المزمع مناقشتها غدا الأحد الموافق ١٢ يناير ٢٠٢٥م في المعهد العالمي للتجديد العربي ( وحدة دراسات الفنون والموسيقى والرقص الشعبي ) وقد سبق وأنا كتبت عن كتاب الدكتور نزار ( جسر الوجدان بين اليمن والسودان) ووجدته يقع في إطار مايسمى بمدرسة التاريخ الجديد وما ادراك ما مدرسة التاريخ الجديد؟
أنني أعرف الرقص منذ طفولتي الباكرة. كانت تشدني الديوك الحميرية من أجمل الرقصات الشعبية اليمنية واصعبها. رقصة ذكورية شيقة وشاقة لا يجيدها إلا من خضع لمسار طويل من التأهيل والتدريب فضلا عن الياقة الجسدية وذائقة موسيقية مرهفة للتمييز بين الإيقاعات الموسيقية وكلمات الأغنية وتنغيم الناي وتناسق حركة القدمين مع الإيقاع والانتقالات الرشيقة من الرقص المتوازي إلى التقابل الديوكي واللف والدوران والتبطيىء والتسريع بالاتساق مع تنويعات اللحن والكلمات والإيقاع. وكنا نحاول محاكاة الرجال وتقليدهم في ممارسة الرقص بتشجيع من الأهل وقلما كنا ننجح في إجادتها بسبب صعوبتها وطبيعتها المعقدة التي تعكس شروط حياة الناس القاسية في تلك الأزمنة. رقصة ذكورية خالصة بل هي وسيلة فنية ثقافية لهندسة الهوية الذكورية الصارخة وترسيخها امعانا في التمييز الجندري الصارم بين الإناث والذكور. فأين يمكن التعرف على ملامح صورة المرأة في هذا المشهد البطريركي؟ هي حاضرة بقوة ولكن حضورها كان رمزيا في الأغاني والحلم والتمني الأسطوري والغزل العفيف. واتذكر أنني في سن المراهقة كنت منجذبا لمشاهدة الرقصات النسائية في أفراح التزاوج بوصفها الفرصة الوحيدة للفرح والترفيه. وفي الخدمة العسكرية الاجبارية كنا نغتنم الليالي المقمرة للرقص والغناء وهناك تعرفت على أنواع الرقص الشعبي بمختلف مسمياته( اللحج والحضرمي والعدني والصنعاني والقبائلي والصوفي والعسكري..الخ) وهذا ما منحني بعض الرأسمال الثقافي الرمزي للمارسة الرقص اللحج في احتفالات الجامعة إذ كان جزء لا يتجزأ من النشاط الطلابي لاسيما للقيادات الطلابية؛ الرقص برستيج تكميلي بحسب بيير بورديو الذي يرى أن كل المنتجات الثقافية – بما فيها الرقص – هي محصلة لعلاقات تاريخية مرتبطة ببناء القوة، وامتلاك شكل ما من أشكال رأس المال (الاجتماعي أو الثقافي أو الرمزي أو الجسدي) وهي – أي الفنون – منطقة تعكس الصراع والتمايز الاجتماعي بين الطبقات المختلفة. إن مجال الرقص Field of Dance– حسب مفهوم بورديو – هو نسق يُظهر من خلاله الأفراد من طبقات اجتماعية محددة بشكل واعٍ أو غير واعٍ امتلاكهم وهيمنتهم على أرصدة مميزة ومتنوعة من رأس المال الثقافي والاجتماعي. ما علينا.
هكذا كنت اعرف الرقص وامارسه كما هو حال الكثير من الناس ولكنني لم أتوقف يوما من الأيام للتساؤل حول معناه ولماذا يرقص الناس. ومعروف أن السؤال المهم بالنسبة لظاهرة الإنسانية والاجتماعية ليس هو: ماذا يعتقد ويقول الناس ويفعلون؟ بل هو لماذا يعتقدون فيما يعتقدونه؟ ويقولون مايقولونه؟ ويفعلون ما يفعلونه؟ ذلك هو السؤال العلمي المنهجي النافد إلى صميم الحياة البشرية لما اراد فهم ثيماتها الخفية. وربما فتحت فلسفة التاريخ والحضارة أعيني على مجالات بالغة الأهمية والحيوية لم تكن تخطر على بالي أبدا.
لقد درجت عاداتنا في قراءة التاريخ التركيز على التعاقب بين الدول والملوك وتعقب المعارك والحروب الكبرى وكأنما هي وحدها التي تستحق التدوين والسرد والحفظ والقراءة وقلماً تساءلنا عن مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المهمة الأخرى حتى جاءت مدرسة التاريخ الجديدة مدرسة التاريخ الجديد (La Nouvelle Histoire) التي تُعد واحدة من أبرز التيارات الفكرية التي أثرت على دراسة التاريخ في القرن العشرين. ظهرت هذه المدرسة في فرنسا في منتصف القرن العشرين بفضل جهود مؤرخين بارزين مثل مارك بلوخ ولوسيان فيفر، ثم تطورت بشكل كبير مع مجموعة مدرسة الحوليات (Annales School) التي أسسها هؤلاء وغيرهم مثل فرناند بروديل وجاك لوغوف. استندت مدرسة التاريخ الجديد إلى منهجيات متعددة التخصصات، مبتعدة عن الأسلوب التقليدي في كتابة التاريخ الذي كان يركز على السرد السياسي والعسكري للأحداث. بوصفها طريقة العرض التاريخي التي تحاول بصفة عامة أن تعيد صياغة تاريخ الحضارة ككل بوصفه على حد قول الاستاذ روبنسون – كل ما نعرفه عن كل شيء فعله الانسان أو فكر فيه أو أمل فيه أو حلم فيه.ويعد الأمريكي جميس هارفي روبنسون، الذي ورد اسمه في هذا التعريف أول من استخدم مصطلح التاريخ الجديد إذ كان قد نشر كتاباً في نيويورك في عام 1912 يحمل أسم (التاريخ الجديد) جاء فيه: "ان الانسان ليجد عزاءاًً وراحة عقلية في ترك أي محاولة لان يعرف التاريخ وأن يقنع باعتبار: مهمة المؤرخ أن يكشف أي شيء عن ماضي الجنس البشري يعتقد أنه شائق أو مهم يستطيع أن يضع يده على مصادر المعلومات عنه"وقد أوضح الاستاذ بارنز أن ما هو جوهري في هذا التعريف لمصطلح التاريخ الجديد أنه يؤكد على البحث عن الأصل (Genetic Orientation)، كالبحث عن أصل الانسان وتطوره، وأصل التنظيمات الحضارية وتطورها. ومن هنا، فانه يرى أن على المؤرخ الذي يسعى لكتابة التاريخ على وفق هذا التصور الجديد أن يكون لديه إلمام كامل بطبيعة الانسان وعلاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية الامر الذي يمكنه من معالجة مشكلة إعادة صياغة الاوجه المختلفة لتاريخ الحضارة. وفضلاً عما تقدم، فإن على المؤرخ أن يتلقى تدريباً مناسباً لتحليل التطور في النظم، وهو التطور الذي يحفظ سجل سيطرة الانسان تدريجياً على بيئته المادية ونجاحه المضطرد في تنظيم الجهود التعاونية لبني جنسه. وهنا يؤكد الاستاذ بارنز، أن هذا النوع من التاريخ الحضاري يتطلب من المؤرخ الطموح الذي يسعى للعمل في ميدانه أن يكون مزوداً بمعلومات اساسية من "علم الاحياء، وعلم الاجناس البشرية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع. كذلك، فان عليه أن يتدرب تدريباً خاصاً في العلوم الاجتماعية، وفي بعض فروع العلوم الطبيعية، وعلم الجمال، ...".
ان هذه المفاهيم الدقيقة والواضحة التي قدمها الاستاذ بارنز عن التاريخ الجديد، تفرض علينا أن نقر له بالدور الريادي في تأسيس وتطوير هذا التوجه الجديد في كتابة التاريخ. وقد أقر له بهذا الدور الريادي جاك لوغوف في كتابه المهم التاريخ الجديد بقوله: "يحيل نعت (الجديد) على (حركة التاريخ الجديد) التي انطلقت في سنة 1912 في الويات المتحدة، وخاصة إلى هـ. أ. بارنز (H. E. Barnes) الذي نشر في سنة 1919 كتاب علم النفس والتاريخ
وعلى الرغم من هذا الاقرار الصريح بأن ريادة حركة التاريخ الجديد قد انطلقت في الولايات المتحدة ومنذ عام 1912م، فإن لوغوف يقول في هذا البحث ما نصه: "يحتل التاريخ الجديد موقعاً متميزاً في هذا الحقل المتجدد للعلوم. هناك (تاريخ جديد) وأول رواده هنري بار الذي استعمل هذه التسمية منذ سنة 1930م. ومن المعروف أن هذا المؤرخ هو من المؤرخين الفرنسيين البارزين. ويبدو أن الذي حمل لوغوف على تجاوز جهود رواد التاريخ الجديد في الولايات المتحدة وتركيز الانظار على أعمال المؤرخين الفرنسيين هو الاعمال الكبيرة التي قدموها في مجال التنظير للتاريخ الجديد في اطار مدرسة الحوليات، وان كانت الدقة العلمية تفرض عليه ان عطي لكل ذي حق حقه.ان مصطلح (حوليات) هو الكلمة الاولى من اسم المجلة الفرنسية التي أسسها مارك بلوخ ولوسيان فيفر: Annales de L’histoire Economique et Socials([8]) وهو يعني في اللغة العربية مجلة "الحوليات الاقتصادية والاجتماعية". وقد أسست في عام 1929. وقد لاحظ أحد المؤرخين أن منهجية هذه المجلة لا علاقة لها بمنهجية كتب الحوليات التي تعرض وقائع التاريخ على وفق التدرج الزمني للسنين كما فعل الطبري وغيره من المؤرخين المسلمين عندما ألفوا كتبهم أو كما جرى العديد من مؤرخي العصور الوسطى في أوربا على أتباعه. ان منهجية مجلة الحوليات الاقتصادية والاجتماعية عمل يقوم على اساس عرض الاحداث عرضاً أفقياً بينما تقوم منهجية مؤرخي الحوليات على اساس عرض الأحداث عرضاً عمودياً على وفق تدرج الأحداث زمنياً. وبالنظر لأهمية الجهود التي قدمها أصحاب مدرسة الحوليات في البحث والتنظير لحركة التاريخ الجديد منذ تأسيس مجلتها في سنة 1929 وحتى الوقت الحاضر، فإننا سنعرض في المبحث الآتي أهم الأفكار والمباديء التي سعت هذه المدرسة لعرضها والدفاع عنها: التاريخ الجديد ومدرسة الحوليات:
تتلخص المباديء والافكار التي دعت مدرسة الحوليات إلى ضرورة الالتزام بها في كتابة (التاريخ الجديد) في أربعة مباديء سنتولى عرضها بايجاز في النقاط الآتية:
1. الفهم الشمولي للتاريخ:
أوضح لوسيان فيفر وهو أحد مؤسسي مدرسة الحوليات أن الفهم الشمولي للتاريخ يتطلب من المؤرخ أن "يهتم بكل الفعاليات البشرية وكل ما في الإنسان أو يعتمد على الإنسان أو نتيجة الانسان أو يجريه الإنسان مما له أهمية في وجود الإنسان ونشاطه وأذواقه وأزيائه" ومن أجل تحقيق هذا الهدف دعا فيفر المؤرخين إلى عدم تقييد أنفسهم بالوثيقة كما كانت تستخدم من قبل المؤرخين التقليديين في تدوين الحدث المرتبط بالتاريخ السياسي، وأكد "على أن التاريخ الجديد يجب أن يحرر نفسه من الوثائق وما تفرضه من تحديدات، وأن عليه أن يستعمل كافة ما يستعمله الإنسان: اللغة، والعلامات، وأدلة الريف، ونظم الحقول، والاساور والقلائد، وكل مصدر اخر يمكن الحصول عليه. وباختصار، فان عليه ان يكون منفتحاً لكل مكتشفات "طرق العلوم الأخرى، كالجغرافية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس. وعلى المؤرخ في نفس الوقت أن لا ينجرف في النزعات التي برزت في العشرينات والثلاثينات – من القرن العشرين – في تقسيم نفسه إلى عدد من التخصصات (كالتاريخ الاقتصادي وتاريخ الأفكار، وغيرها) التي يسير كل منها في طريقه الخاص، ففصل التاريخ عن مضماره الاجتماعي هو أسوأ من عبث، ومن المؤكد أنه كان مضللاً. وعلى أي حال، فان البحوث المتخصصة في التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي تبرز قيمتها بالدرجة الأولى في قدرتها على كشف واجبات جديدة، وسبل جديدة، في معالجة التاريخ ككل. في ضوء ما تقدم، فقد أكد فرنان بروديل – وهو من أبرز رواد التاريخ الجديد – أن التاريخ يجب أن يكون شمولياً أو لا يكون، "وهو يحتاج إلى العلوم الاجتماعية الأخرى، وقادر على تبني اشكال التفسير الجديدة التي تبتدعها هذه العلوم وتكييفها لأغراضه الخاصة. والتاريخ قادر بدوره على تقديم ما تفتقر إليه العلوم الأخرى، وهو البعد الزمني، الذي يمثل خصوصيته، ولايهم في نظر بروديل ان أتهم البعض التاريخ بأنه (امبريالي) يريد ابتلاع كل شيء".
وقد أشار العروي إلى أن مفهوم الشمولية كما يعرضه بروديل وغيره من مؤرخي مدرسة الحوليات مستوحى من علماء الانثربولوجيا وبخاصة من الباحث الفرنسي مارسل موس الذي يرى أن "المجتمع، أي مجتمع، يكون في الحقيقة وحدة عضوية، فلا يمكن تجزئته الى قطع مستقلة تدرس كل واحدة منها على حدة. ان في قلب كل جزئية وظيفية يجب البحث عن مفعول الظاهرة الشمولية". وقد لاحظ المفكر العربي عبدالله العروي أن "كل باحث يدعي اليوم أنه متأثر بمدرسة الحوليات وأنه يكتب تاريخاً شمولياً. ومع ذلك نراه يؤرخ لمنطقة أو لحقبة، وهذه بالطبع ضرورة لا مفر منها") وهو الامر الذي فعله بروديل حينما جعل من عالم البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي على أيام فيليب الثاني – وهذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره عام 1949 – نموذجاً تطبيقياً لكتابة التاريخ بحسب المنهجية الشمولية التي يدعو إليها. وقد توصل بروديل من دراسته المستفيضة لهذا الموضوع إلى وجود شخصية تاريخية لهذا البحر. وقد تجلى ذلك في وحدة النظم الاقتصادية والسياسية التي سادت في معظم الدول التي قامت على شواطئه .
في ضوء ما تقدم، فقد استنتج أحد الباحثين، أن الأفق التاريخي (الشمولي) عند بروديل كانت تسيطر عليه (موضوعة الحضارة) وهي تعني عنده: "مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي".
1. الأزمنة الثلاث في التاريخ الشمولي:
يتحدث بروديل عن ثلاثة أزمنة في الزمان التاريخي وهي: الزمان الجغرافي والزمان الاجتماعي والزمان الفردي. وفي اطار هذا الفهم تبرز "امكانية لكتابة ثلاثة تواريخ ثانوية أو فرعية تصب كلها في ذات التاريخ الأصلي (الكلي) أو (الشامل): أولها تاريخ جغرافي (يهتم بدراسة الطبيعة أو المكان كتاريخ)، ثانيها: تاريخ ظرفي اجتماعي (يعنى بدراسة المجتمع والحضارة)، ثالثها: تاريخ حدثي (سياسي). ولا يعني هذا الاخير عودة مقنعة إلى المنهج التاريخي القديم، بل التأكيد على أن ثمة شروطاً تحدد الحدث نفسه وتسمح بامكانه". وقد خلص بروديل من كل ما تقدم إلى أنه قد أنجز في كتابه (البحر الابيض المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني) تاريخاً متعدداً لكنه واحد، لأن حركته تسير من البنية، أي من شروط لامكان إلى الحدث.
مدرسة التاريخ الجديد مثلت نقلة نوعية في فهمنا للتاريخ، حيث وسّعت أفق الدراسات التاريخية لتشمل مختلف جوانب الحياة الإنسانية، مما أعطاها عمقًا وشموليةً غير مسبوقة. ورغم الانتقادات، فإنها أسهمت بشكل كبير في تحرير التاريخ من القيود التقليدية وجعلته علمًا إنسانيًا أكثر تكاملاً وارتباطًا بالواقع.
ويعد كتاب جسر الوجدان بين اليمن والسودان للدكتور نزار غانم من أهم الأعمال في هذا الحقل المعرفي الجديد الذي بات يعرف بتيار التاريخ الجديد في الفكر التاريخي المعاصر. لقد أندهشت وأنا اقرأ، كتاب، جسد الوجدان؛ وتسألت مع نفسي، ياترى هل كان الدكتور نزار غانم على إطلاع عميق باتجاه مدرسة التاريخ الجديد الذي ظهر في الفكر الأوروأمريكي منذ بداية القرن الماضي وازدهر ت فيما بات يعرف ب(مدرسة الحوليات التاريخية) التي ازدهرت في فرنسا منذ منتصف القرن العشرين؟! وهي مدرسة لم يعرفها معظم المشتغلين في علم التاريخ ذاتهم، وأنا أحدهم إذ أتذكر بان معرفتي بها لا تتجاوز السنوات العشر. فكيف لأستاذ الطب أن يتمكن من استلهام منهجها بهذه الكفاءة المدهشة؟! حاولت أن أعثر في كتابات نزار غانم على سبب يبطل العجب! أقصد أي اشارة تدل على ملمح من الاتصال والعلاقة بتيار التاريخ الجديد، وهو المشهود له بالأمانة العلمية والنزاهة الأكاديمية فلم أجد مايدل على ذلك. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية المزدوجة الذي ينطوي عليه عمل الدكتور نزار؛ إذ هو من جهة قد أسدى خدمة جليلة للثقافة اليمنية والسودانية تحديدا والعربية والإنسانية عامة في جمع وحفظ وإشهار مدونة لتاريخ التواصل والاتصال الجغرافي التاريخي الثقافي بين البلدين ( اليمن والسودان) في تحفة ثقافية رائعة كاد يطويها الإهمال والنسيان بسبب ضياع بعض نصوصها وتشتتها في إضبارات وقصاصات متفرقة. إذ إنه وقد جمع هذا الكم المعرفي الزاخرة بالعطاء والإبداع في هذا الكتاب فقد حفظها من الضياع.وهو من جهة أخرى يفتتح في هذا الكتاب منهج المدرسة التاريخية الجديدة في الدراسات الثقافية العربية ويقدم هذا الكتاب في منحاه الجديد دراسة تطبيقية لاتجاه التاريخ الجديد في الثقافة العربية. وهو بذلك اسدى فرصه ثمينة للمشتغلين في حقول الدراسات التاريخية العرب للتعرف عن نموذج تطبيقي محلي للتاريخ الجديد. لقد تذكرت وأنا اقرأ كتاب جسد الوجدان الذي - يعد أول كتاب في التاريخ الثقافي لشعوب البحر الأحمر- تذكرت كتاب المؤرخ الفرنسي بروديل عام 1949م
الذي كرسه لدراسة ثقافة البحر الأبيض المتوسط. إذ أن الأفق التاريخي (الشمولي) عند بروديل كانت تسيطر عليه (موضوعة الحضارة) وهي تعني عنده: "مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي"
وتأتي دراسة الدكتور نزار غانم عن ثأثير الفنون التعبيرية الأفريقية- ومنها؛ الرقصات الشعبية -بثقافة المدن اليمنية الساحلية؛ المقابلة لها في الضفة الأخرى من البحر الأحمر والمحيط الهندي.
ومنذ قرأتي لكتاب جسر الوجدان بين اليمن والسودان قبل سبعة أعوام في حينما زرت أم درمان وظاهرة الرقص الشعبي تثير اهتمامي وإعجابي بما جعلني أبحث في مدارتها الحياتية والثقافية المدهشة
ربما كان الرقص الشعبي من أهم عناصر الفولكلور وأقدمها وهو بذلك يعد موضوعا حيويا للانثروبولوجيا الثقافية ويمثل كتاب (أنثروبولوجيا الرقص) Anthropology of Dance للباحثة الأمريكية آنيا بيترسون رويس Anya Peterson Royce الذي صدر في عام 1977 منعطفًا مهمًا في التحليل الأنثروبولوجي للرقص، فـ (رويس) التي تلقت تدريبًا في الرقص بجانب عملها الأنثروبولوجي، مزجت الرؤى النظرية والأدوات المنهجية في تحليل الرقص، وانطلقت من قضية أساسية مفادها أن الرقص لا يمكن فهمه بشكل مستقل عن البنية الثقافية التي يوجد فيها، ولذلك ينبغي تحليله كظاهرة فريدة بكل ثقافة، حتى وإن تشابه في بعض حركاته مع رقصات معينة في ثقافات أخرى. ويعد هذا الكتاب الآن مرجعًا أساسيًا لكل المهتمين بدراسات الرقص وجوانب تحليله المختلفة. (Adra, Najwa 1978 : 76).
وتواترت بعد ذلك الجهود العلمية لدراسة الرقص، وأضحت أنثروبولوجيا الرقص منطقة معرفية خصبة وممتعة، وأنجز الباحثون فيها العديد من الرؤى والأطروحات المتعددة والمتنوعة التي أماطت اللثام عن الكثير من جوانبه وتفصيلاته، كما أسسوا منهجيات معتبرة لدراسته”( ينظر، حسني إبراهيم عبد العظيم، انثروبولوجيا الرقص، منصة معنى، ٦يونيو ٢٠١٩).�وقد زخرت اليمن ولازالت تزخر بموروث فريد ومتميز من الفنون الشعبية لم تكشف عنها الدراسات الأنثروبولوجية كما هو الحال في عدد من البلدان العربية ومنها مصر والجزائر الرائدة في تلك الدراسات المهمة.�والرقص سلوك إنساني يتشكل من متواليات حركية وإيقاعية غير لفظية هادفة، ومنتظمة، تعتمد تلك المتواليات على إيقاع منتظم، وتتميز عن الأنشـطة الحركية العادية، وللرقص قيم جمالية وحمولة رمزية عميقة من حيث الزمان والمكان والجهد – خلافًا للأنشطة البدنية المعتادة. فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافيًا، ومُنمط اجتماعيًا.�وهو فضلًا عن ذلك لغة الجسد الأول وأقدم الفنون في تاريخ الحضارة البشرية وقد كان وسيلة التعبير الأول للإنسان قبل أكتشاف اللغة والكلام وهو من الحركات الغريزية الأولى التي ترافق الموسيقى، فمثلاً لا يستطيع طفل صغير أن يقاوم لحنًا شجيًا، سيرقص أو يجري وربما سيقفز ضاحكاً فوق السلالم الموسيقية… روح الطفل الطازجة وأقدامه المتحررة من العيب والحرام هما سر الرقص وجوهره. فلا شيء يمنح الإنسان احساسًا بالحرية كالرقص، الأيدي التي تتحول في لحظات إلى أجنحة، والأجساد التي تقترب من السماء تاركة الأرض ترن تحت الأقدام الراقصين، والكرة الأرضية التي تستدير على شكل حلبة رقص واسعة. وليس هناك من وسيلة اجود من الرقص والفرح في مقاومة الضيق واليأس والموت. وتعد رقصة الديوك من اقدم الرقصات الحميرية الجنوبية القديمة إذ توارثتها الأجيال عبر مئات السنين في سرو حمير منطقة يافع الجبلية. وهي من اصعب الرقصات الذكورية في تاريخ الرقص العربي إذ تتطلب طاقة قوية وأجساد متعافية ولياقة ذكية وخفة ورشاقة حيث تؤدا مع الإيقاع الموسيقي التقليدي على صوت الطبل والمزمار أو العود والغناء. وهي رقصة ثانية يؤديها شخصان شابان بعد التدريب والممارسة الطويلة. وتتميز بسرعة الإيقاع وتنساق الحركات المتداخلة تبدأ في حركة مستطيلة ذهابًا وإيابًا في مساحة لا تزيد عن ستة أمتار وفي عملية تصاعدية للحركة الراقصة يتعقد الاداء الفني في براعة اللف والدوران الرشيق للراقصين على بعضهما في مشهد محاكاة ميتافيزيقية لصراع الديوك الضاري. لا يقدر عليها إلا من يمتلك القوة الجسدية والإحساس المرهف بالفرح الراقص. ربما تستمر نصف ساعة أو أكثر. وأودى بطرق متنوعة في المجتمعات المحلية الذكورية وللنساء رقصاتهم المتميزة التي تعبر عن ثقافة التمييز الثقافي في النوع الاجتماعي. ولكنه تمييز ليس قطعيا. إذ قد يشترك الرجال والنساء في رقصات مشتركة وعلى إيقاع الآلات الموسيقية ذاتها مع اختلاف في الأصوات والنغمات والحركات والاداء. والمثل يقول: لك ضربة رقصة!. يقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري في كتابه ( فلسفة الرقص ١٩٣٦) ” لا ينحصر الرقص في كونه ممارسة وتسلية وفنًا تزيينيًا ولعبة مجتمع في بعض الأحيان، بل هو شيء جدي، وفي بعض وجوهه مبجل جدًا. فكل عصر فهم الجسد البشري، أو أقله أحس بالجانب الغامض فيه، بموارده وحدوده وتوليفات الطاقة والحساسية التي يحوزها، قد اعتنى بالرقص وبجّله. إنه فن رئيسي، تشهد له كونيته وقدمه والإستخدام الطقوسي له، كما الأفكار التي يولدها ويوحي بها. ويضيف الرقص مستنبط من الحياة نفسها، اذ أدرك الإنسان أنه يملك في نفسه عافية ومرونة أكبر، وإمكانات واسعة في مفاصله وفي عضلاته، أكثر مما يحتاجه لضرورات بقائه. واكتشف الإنسان أن بعض الحركات بتواترها وتتابعها، تجلب له لذة تصل أحيانًا الى حد الإنتشاء” ولا اداري ما سر انشداد الناس إلى تلك الرقصة العسيرة حتى وهم في مواطن الهجرة والاغتراب والمنافي والشتات. فحيث ما اجتمعوا رقصوها من الصين إلى أمريكا وما بينهما. وهكذا هو المعنى الانثروبولوجي للثقافة التي تبقى بعد نسيان كل شيء كما قال عالم الاجتماع الفرنسي هيلاري. وعلى هذه الأرض ما يستحق الفرح. والرقص هو أكثر الأفراح المتصلة بالأرض والحياة والنشاط والحيوية والخفة والرشاقة ورقصة الديوك الحمّيرية من الفنون الشعبية اليمنية. رقصة شعيبية تراثية معقدة لا يجيدها إلا من تدربها وتحتاج إلى لياقة جسدية وحس جمالي للتمييز بين الإيقاع الموسيقي وتنغيم الناي. انظروا إلى تناسق حركة الأقدام مع الإيقاع والانتقالات الرشيقة من الرقص المتوازي إلى التقابل الديوكي واللف والدوران والتبطيىء والتسريع بالاتساق مع تنويعات الإيقاع والسر في حركة القدمين.�وفيما يتصل بالوظائف المتنوعة للرقص، أكدت الدراسات الميدانية على جملة من الوظائف منها؛ وظيفة صحية يساعد على علاج التوتر وتخفيفه “إذ أن النشاط البدني للرقص يُحدث تغيرات عاطفية، وتحولات وجدانية في الجانبين الروحي والدنيوي (العلماني) للفرد. فالرقص قد يزيد من طاقة المرء وينمي إحساسه بالحيوية، ويعمل على تنشيط الدورة الدموية التي تنقل الأكسجين إلى العضلات والدماغ، بالإضافة إلى تعديل مستويات بعض المواد الكيميائية بالمخ. ويعمل الرقص القوي على إطلاق الإندورفين Endorphins الذي يُعتقد أنه ينتج راحة وبهجة كبيرة. (Hanna, L. Judith 2010: 224)” ووظيفة ترفيهية تتصل بتمضية وقت الفراغ، ومصدر من مصادر المتعة الحسية والوجدانية، ويعد بصورة ما شكلا من أشكال التمارين الرياضية، كما أنه وسيلة لإطلاق الخيال، حيث يتحرر الراقص من التحكم في نفسه، ومن ثم يكون في مأمن من أي قوى تتحكم فيه، فالرقص يمثل استعراضًا مثيرًا للذات وللجسد، مصحوبًا في ذات الوقت بقدر مساو من (نفي) الذات والجسد من خلال الذوبان في المضامين الرمزية للرقص. هذا فضلا عن الوظائف الاجتماعية والثقافية الاخرى التي تتصل بالأفراح والأتراح والعبادات والطقوس الحربية وعلاقات الهوية والرأس مال الرمزي بحسب بيير بورديو الذي يرى أن كل المنتجات الثقافية – بما فيها الرقص – هي محصلة لعلاقات تاريخية مرتبطة ببناء القوة، وامتلاك شكل ما من أشكال رأس المال (الاجتماعي أو الثقافي أو الرمزي أو الجسدي) وهي – أي الفنون – منطقة تعكس الصراع والتمايز الاجتماعي بين الطبقات المختلفة. إن مجال الرقص Field of Dance– حسب مفهوم بورديو – هو نسق يُظهر من خلاله الأفراد من طبقات اجتماعية محددة بشكل واعٍ أو غير واعٍ امتلاكهم وهيمنتهم على أرصدة مميزة ومتنوعة من رأس المال الاجتماعي والرمزي بصوره مثيرة للاهتمام.
وهذا ما سوف نراه بوضوح أكثر في دراسة الدكتور نزار غانم عن الرقص الأفريقي واثره في المدن الساحلية اليمنية.
افريقيا مهد الرقص والحياة
تُعد أفريقيا بحق مهد الرقص والحياة، فهي القارة التي تنبض بالطاقة والحيوية، حيث ترتبط الفنون، والرقص، والموسيقى بروح الحياة اليومية للناس فيها. تمتزج الثقافات الأفريقية في مشهد رائع من التنوع، حيث لكل شعبٍ إيقاعه الخاص وحركاته التي تعبر عن هويته وتراثه.
الرقص في إفريقيا ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، والروحية، والثقافية. يعبر عن الاحتفالات، الطقوس الدينية، والمناسبات الاجتماعية. الإيقاعات الأفريقية، التي تتميز بالطبول وأدوات الإيقاع التقليدية، تحمل في طياتها قصصاً من النضال، والأمل، والفرح، والحزن.
وعلى حد تعبير الكاتبة الزنجية الأمريكية (بيرل بريمياس) مؤلفة كتاب أنثروبولوجيا الرقص التي كتبت إن "الرقص عند الإفريقي هو حياته. وبين الرقص والحياة زواج مغناطيسي، وحين أكتب عن الناس والحياة في إفريقيا، لا أجد أمامي مصدرا أصدق من الرقص إذ صنفت لمجموعة الرقصات التي تمثل في تتابعها دورة الحياة الكاملة من بدايتها إلى نهايتها وهي المجموعة التي تتكرر في كل مجتمع إفريقي.. وهي رقصة الإخصاب، فرقصة الميلاد ، فالتكريس أو البلوغ، فالخطبة، فالزواج، فالموت، وهي المراحل التي يمر بها كل كائن حي.
قد يكون من الغريب أن نتصور مجتمعا يرقص في مناسبة الموت ولكنه تقليد لا يرى فيه الإفريقي هذه الغرابة التي يراها غيره، لأن الإفريقي يعتقد أن دورة الحياة إنما تكتمل بالموت أو على حد تعبيره بالعودة إلى العالم اللامنظور، لأن المرء حين يموت ينتقل إلى عالم الخلود مع أرواح السلف.. وفي هذا خير كبير لمن فارق حياة الأرض.. وعلى الأحياء أن يسعدوا بهذا الخير وأن يعبروا عن فرحهم المصوب بالغناء والطبل..( ينظر، انثروبولوجيا الرقص في افريقيا٢٠٢١٠)
الحياة في إفريقيا تُظهر تفاعلاً فريداً بين الطبيعة والإنسان، حيث تنبض القارة بروح الطبيعة، وتترجم إيقاعاتها في الرقص والغناء، وكأن الأرض نفسها تشارك في هذه الاحتفالات.
وقد أشارت المصادر التاريخية إلى أن الرقص وما يرتبط به من طقوس، ومراسم اقترن بالوجود الإنساني منذ أقدم العصور، ومن خلاله وعن طريقه يتم التعبير عن الحالات النفسية والوجدانية كالفرح والحزن، والقلق والاستعداد للقتال وغيرها، وكان منها ما يؤدى خلال الاحتفالات الدينية من رقصات تعبيرية رمزية للتقرب بها من الآلهة او للحصول على مباركتها. (ينظر، إياد محمد حسين وعامر محمد حسين 2013: 74)
دراسة: تأثير الفنون الأدائية الأفريقية على سكان المدن الساحلية اليمنية
مقدمة
تُعد المدن الساحلية اليمنية مثل عدن، الحديدة، والمخا مراكز حضارية تفاعلت مع ثقافات مختلفة عبر التاريخ، بفضل موقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر وخليج عدن. ومن أبرز التأثيرات الثقافية التي شكلت ملامحها الفنون الأدائية الأفريقية التي انتقلت عبر الهجرة والتجارة البحرية. لعبت هذه الفنون دوراً مهماً في تشكيل هوية سكان هذه المدن، مما جعلها جزءاً من التراث الفني المحلي.
أولاً: الفنون الأدائية الأفريقية وأصولها
الفنون الأدائية الأفريقية تشمل الموسيقى، الرقص، الشعر الشفهي، والأداء المسرحي. تمتاز بتنوعها واستخدامها الإيقاعات الحية، الحركات التعبيرية، والرموز الثقافية.
1. أصول الفنون الأفريقية:
• تعتمد على الإيقاع كعنصر أساسي، حيث يمثل الطبل أداة مركزية.
• تمزج بين الأداء الجسدي (الرقص) والتعبير الصوتي (الغناء).
• تستند إلى الأساطير، الطقوس، والقصص الشعبية.
2. انتقال الفنون إلى اليمن:
• جاءت هذه الفنون مع التجار والمهاجرين الأفارقة من شرق إفريقيا (مثل الصومال، إثيوبيا، وإريتريا).
• استقرت العديد من الجاليات الأفريقية في المدن الساحلية اليمنية، مما أتاح التبادل الثقافي بينها وبين السكان المحليين.
ثانياً: التأثيرات الأفريقية على الفنون الأدائية في المدن الساحلية اليمنية
1. الموسيقى والأغاني
• الموشحات العدنية: تطورت بعض الألحان العدنية من التقاليد الموسيقية الأفريقية، خاصة تلك التي تستخدم الإيقاعات السريعة والطبول.
• أغاني البحارة: أدخل البحارة الأفارقة أنماطاً غنائية مثل “التهليل البحري” الذي كان يُؤدى أثناء العمل على السفن، وارتبط بالمجتمعات البحرية في عدن والحديدة.
2. الرقصات التقليدية
• رقصة الزفّة: رقصة زفّة العروس في عدن تحمل تأثيرات أفريقية واضحة من حيث الحركات الإيقاعية الجماعية واستخدام الطبول.
• الرقص الصوفي (الزار): انتشرت طقوس “الزار”، وهي مزيج من الموسيقى والرقص تُستخدم للتطهير الروحي والعلاج النفسي، ولها أصول أفريقية مرتبطة بالطقوس الدينية.
3. الأداء المسرحي
• السرد الشعبي: استخدمت المجتمعات الأفريقية في اليمن السرد الشفهي (الحكايات) مع أداء تمثيلي بسيط، مما أثر في القصص الشعبية اليمنية مثل “حكايات السمر” التي تُؤدى بأسلوب درامي.
• المواويل: تطور فن الموال العدني ليجمع بين العناصر اليمنية والإيقاعات الأفريقية.
4. الآلات الموسيقية
• الطبل الأفريقي: أصبح الطبل جزءاً من التراث الموسيقي اليمني، خاصة في المدن الساحلية.
• القِربة: آلة موسيقية شعبية تُستخدم في عدن، تعود أصولها إلى شرق إفريقيا، وتُستخدم في حفلات الزفاف والاحتفالات التقليدية.
ثالثاً: الأمثلة الحية على الفنون الأدائية الأفريقية في اليمن
1. احتفالات المولد النبوي:
• في عدن والحديدة، تُؤدى احتفالات المولد بأسلوب يتضمن إيقاعات ورقصات مستوحاة من التقاليد الأفريقية، مثل الطبول الجماعية والأهازيج الدينية.
2. حفلات الزواج:
• تُقدم خلال حفلات الزواج في المدن الساحلية رقصة “البنب”، وهي رقصة جماعية ذات أصول أفريقية تؤدى على إيقاع الطبول والغناء الجماعي.
3. طقوس الزار:
• تنتشر في المناطق الساحلية وتؤديها مجموعات مختصة، حيث تجمع بين الموسيقى الحية وحركات الجسد الطقسية.
4. موسيقى البحّارة:
• أغانٍ مثل “يا مركب الهند” تعكس التأثير الأفريقي في الإيقاعات والموضوعات البحرية.
رابعاً: تحليل التأثيرات الثقافية والاجتماعية
1. التكامل الثقافي:
• أدى التفاعل مع الفنون الأفريقية إلى تكوين هوية فنية مميزة في المدن الساحلية، جمعت بين الأصالة اليمنية والتأثيرات الخارجية.
2. الحفاظ على التراث:
• رغم تأثرها بالعولمة، لا تزال الفنون الأدائية الأفريقية تُمارَس في اليمن بفضل ارتباطها بالمناسبات الاجتماعية والدينية.
3. التحديات المعاصرة:
• يواجه هذا التراث تحديات مثل ضعف التوثيق وغياب الدعم المؤسسي للحفاظ عليه.
خاتمة
الفنون الأدائية الأفريقية التي أثرت على سكان المدن الساحلية اليمنية تعكس قدرة الثقافة على التنوع والانفتاح. ساهمت هذه الفنون في تشكيل هوية فنية غنية ومتعددة الطبقات، تُظهر التفاعل الثقافي الذي لطالما كان جزءاً من تاريخ اليمن. يتطلب الحفاظ على هذا التراث الفني تعزيز البحث والتوثيق ودعم الفعاليات الثقافية التي تُبرز هذا الجانب المميز من التراث اليمني.
ربما نظر الدكتور نزار غانم إلى الأثر الأدائي الأفريقي من منطلق نظرية الانتشار الثقافي التي تشير إلى انتقال العناصر الثقافية من مجتمع إلى آخر عبر التفاعل بين الشعوب من خلال التجارة، الهجرة، الحروب، أو الاستعمار. ويُعد الرقص الشعبي أحد أبرز عناصر الثقافة التي تعكس هذا الانتشار، حيث يمثل وسيلة للتعبير عن الهوية والروح الجماعية، وفي الوقت نفسه يتأثر بعناصر ثقافية خارجية.
من مصادر التأثير و التأثر الثقافي لعرب شبه الجزيرة لا سيما القاطنين في سواحلها حيث نشطت حركة التجارة و تبادل السلع المختلفة و نشطت معها التحركات الديمغرافية على شكل هجرة للآخر أو احتلال له و كان من الطبيعي أن تكون الجسر الذي تمر عبره المؤثرات الثقافية و منها الفنون التعبيرية الأدائية من موسيقى و رقص و غناء و في الاتجاهين معا. كما لا يمكن أن نغفل تجارة الرقيق كنشاط اقتصادي مستقل دام حتى العصر الحديث ليختفي نهائيا في القرن الميلادي العشرين بعد ان قام المستعمر البريطاني في عدن بحملات على هذه التجارة. و من يدري فقد يوفق بعض علماء الاثنوميوزيكولوجي ذات يوم في تقديم بانوراما متكاملة عن المثاقفة المذكورة بين سواحل جزيرتنا العربية و البر الزنجي بحيث تكون دراسة جامعة مانعة لا تترك صغيرة او كبيرة الا و تفحصتها و حللتها تجريبيا موظفة في ذلك كل معارف و مهارات البحث الاثنوميوزيكولوجي او (علم موسيقى الشعوب) .
ومن تلك الموثرات الفنية يرصد تنويعة من الرقصات الأفريقية التي انتقلت إلى المدن الساحلية اليمنية بحكم القرب الجغرافيا
ولا ادري كيف اغفلها الباحث اليمني فارس نبيل حينما تحدث عن تنوع الرقص الشعبي في اليمن ورصد ثمانين رقصة شعبية يمنية. الدكتور نزار غانم تتبع مصادر التأثير الأفريقي بعين الباحث الأنثروبولوجي أذ رصد تنويعة واسعة من اسماء الرقاصات ومنها وادواتها المصاحبة بالاعتماد على مصادر بحثية اجنبية وعربية موثوقة منها( المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف،والرحالة الالماني، فون مالتزان ومقال عن ( المنبوذون في جنوب الجزيرة العربية ١٨٧٢) والرحالة النمساوي إدوارد جلازر وكتابه عن ( فئة الاخدام في اليمن والترفيه بالموسيقى) ١٨٨٥م والباحث اليمني آدم يحيى أحمد وكتابه ( تهاميات ؛ أوراق من الموروث الشعبي) والمستشرقة النمساوية جابروبلا برونه ومقالها عن رقصة الدربوكة ١٩٠٠م والرحالة الألماني ليو عرش الذي زار عدن عام ١٨٩٧م وكتب عن العرب والأفارقة في مجال الفنون الشعبية والأديب اليمني إدريس حنبلة ودراسته عن رقصة الطنبرة في عدن الذي اشار إلى اصولها الأفريقية. والمؤرخ حمزة علي لقمان وكتبه عن سكان جنوب الجزيرة العربية والبريطاني آر . سكيني الذي نشر عام ١٩١٧ مقال عن تأثير الإيقاع النوبي في طنبرة الزار في عدن والمستشرق البريطاني( روبرت برترام سيرجنت) أشهر المستشرقين البريطانيين ، الذي اهتم بدراسة المجتمع في حضرموت من خلال أبحاثه التي قام بها في الفترة ما بين عامي 1947م و 1948م ، التي هدفت ــ حسب ما كتبه في مقدمة كتابه الشهير " نثر وشعر من حضرموت " ــ (( دراسة مظاهر الحياة والحضارة في حضرموت من خلال اللغة التي يتحدث بها أهل تلك البلاد ، وتقديم حقائق وبيانات صحيحة وثابتة ذات صبغة موضوعية اكثر منها انطباعات ذاتية))..
وغيرهم من المراجع العديدة التي اعتمدها الباحث في دراسته وقد اطلعت على تنويعة مدهشة من الرقصات الساحلية اليمنية المتأثرة بالرقص الأفريقي ومن ذلك( اليوا نسبة إلى قبيلة اللو الكينية في مومباسا وهي رقصة شهيرة في مدينة عدن الساحلية ورقصة البامبيلا الشهيرة في الشحر والمكلا ورقصة زامل ورقصة الدحيف في شقراء أبين ورقصة الحجور أو شرح الصبيان في حضرموت ورقصة الدربوكة وغير ذلك من الرقصات الشعبية اليمنية التي تختلف وتتنوع بحسب الطبيعة الجغرافيا المتنوعة في اليمن
كما يرى بعض الباحثين
فرقصة أهل الجبل تشبه رقصة المحاربين والفرسان، وفيها من الحركة السريعة والإيقاع المحتشد وإبداء القوة، عوضاً عن مرافقة السلاح الأبيض أو الرامي أثناء الرقصة، بينما بيئة الساحل مثلاً والسهول تميل رقصاتها إلى الألفة والدعة والحركة البطيئة الغنائية المتماشية مع إيقاع الفرح والبساطة والغرام، وفي البيئتين أيضاً تنوع داخلهما في الرقصات، فتختلف منطقة عن أخرى بالرقصة وإن كانتا متقاربين جغرافياً، كما لو أن لكل منطقة أو قبيلة رقصة متميزة لا تشبه الأخرى، فصارت المناطق تعرف برقصاتها، وكلما اتجهت إلى أعالي الجبال كلما كانت الرقصة أكثر حدة وسرعة، بعكس النزول إلى بيئة البحر برقصاتها الهادئة، وبالزي غير المتكلف أو المحتشد .