وقفت على موقف الحافلة في الظهيرة على الرصيف. الظهيرة في شتاء باريس لا تعني بأي شكل من الأشكال ظهيرة القيض او الوقوف تحت الشمس الحارقة انما تعني وقوفا مثقلا بالألبسة في نهار رمادي بارد.
وقفت انتظر ما طلبت من طعام من مقصف اغريكي تديره امرأة نشطة ورجل طويل ملتحي قد يكون زوجها يعمل على اعداد الأطباق والساندوتشات وهي تدير الطلبات وتقبض المال.
كان ذلك في الدائرة الخامسة في باريس حيث يقع بين جامعة جيُوسيو Jussieu وحديقة النباتات jardin de plantes محل يوناني متخصص في بيع الساندويتشات التي تنتشر على شرق ضفتي المتوسط والتي تتنوع أسماؤها بين دُونر تركي او شاورما شامية او غريك يوناني.
وقد أستعيض بكلمة كباب عن كل هذه الأسماء ،
كان هناك طابور يسبقني فيه عدة اشخاص ويتلوني اشخاص اخرون ايضا.
نادت السيدة على صاحب الطلب فاذا بسيدة طويلة انيقة كعادة الباريسيات الأنيقات تهرع لأخذ طلبها ، انسحبت خطوتين ودارت حول نفسها وتبين لها انها قد نسيت الخطوة التالية من مشوارها ثم استذكرت قائلة: تباً! علي ان انتظر الباص هنا. لفظت جملتها تلك وهي تضحك ضحكة من يداري غلطة خفيفة.
شعرها الذهبي متناسق مع جبتها الصوفية الطويلة ذات اللون الرملي وشال كشميري لامع. وجهها المستطيل قليل الميكاب تميزه عينان زرقاوان وذقن حاد وعلى اذنيها أقراط فضية متدلية .
قلت لها : لن تذهبي بعيدا. حتماً سيمر الباص بعد قليل. كانت هذه الجملة فاتحة حديث لتخبرني السيدة الباريسية الرفيعة عن أشياء كثيرة.
- احب باريس كثيرا. أنا لست من باريس. أنا من مدينة مسقط رأس شارل ديغول. يا له من فخر. باريس انيقة والتنزه فيها ممتع. سأخضع لعملية جراحية بعد ايام. كنت قد تعرضت لحادث في مدينة بورود. قبل ايام سقطت ارضاً واصبت. علي ان استمتع بأوقاتي إلى أن يحين موعد العملية. الحافلة مريحة. في باريس يمكن للفرد ان يحظى بلقاءات عابرة لطيفة وومتنوعة. الناس هنا لطيفون.
وجدتني مضطرا لمسايرتها في الحديث وتزجية لوقت الانتظار.
- بالطبع باريس مدينة جميلة . لطالما عدت اليها وجدتها مدينة مدهشة.
- هذا يعني انك لست من باريس ؟ من اي مدينة انت؟
-أنا من لاروشيل .
- لاروشيل. اعرفها. زرتها في فترة بعيدة سفرا بقارب كان لحبيبي. (تضحك بتغنج). احب السفر. لقد زرت اماكن كثيرة وبلدان كثيرة. عشت في القاهرة قبل زمن. اهِ! اشتاق لقاهرتي تلك. لا اظنها ستعود كما كانت. عشت فيها لان منها وفيها محبوبي الكبير mon idole عمر الشريف. كان فاتنا ويغري نساء العالم. لكن حظه من الحياة غريب.
- لقد عاش حياته على كل حال. لكن قصة زواجه تركت في نفسه شيئاً من الحزن لا يعوض.
- أتظن ذلك. كانت نظراته جميلة وميلانخولية. أنا حزينه عليه. كنت في شبابي اريد ان اكون ممثلة او عارضة ازياء راقيه haute couture.
امي لم توافق. أنا في الحقيق كسولة احب النوم. ولهذا لم افعل شيئا في حياتي غير السفر كنت اتمنى لو اعمل في محل تجاري. المتاجر تتيح الالتقاء بالناس والتعرف عليهم.
انت تصلح لان تعمل في محل تجاري في لاروشيل. هل تعمل في محل تجاري ولديك حبيبة لاروشيلية؟
-اعمل في شيء آخر. اعمل بالبحث والتعليم. وأتنقل بين باريس ولاروشيل.
- لو كان لدي وقت لأخذت طعامي وذهبت لأتناوله في حديقة النباتات المجاورة . هذا المكان بديع خصوصا إذا كان الجو مشمسا ً
كنت استمع اليها وهي تواصل حديثها الهادر وتتنقل بين الازمنة والأمكنة. انظر اليها بعين وعين آخرى على بائعة السندويتشات.
- سيدي ! ها هو الساندويش الذي طلبته.
تقدمت خطوتين لاستلم طعامي .
جاء الباص رقم 89 وصعدت السيدة وهي تلوح لي بالوداع.
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك