للمدرسة وظيفة اجتماعية متعددة الاوجه منها انها المدخل الاول والضروري للسلّم الاجتماعي.
وهي دلالة على مقدار العدالة الاجتماعية وفاعليتها.
ومن خلالها يتشكل رأسمال اجتماعي وثقافي عني بورديو بدراسته لكشف اللاعدالة القبلية رغم وهم تساوي الفرص.
يدرس الناس للحصول على المعرفة لكنهم يفعلون ذلك بوعي عملي كي يجدوا فرص اجتماعية .
ومن المدرسة تتكون أسس الطبقة الوسطى بحدّيها؛ الأعلى والادنى.
لا تقف المدرسة عند المسويات الدنيا في المراحل التعليمية بل تستمر إلى شهادتك الدكتوراة ومابعد الدكتوراة. ولهذه الشهادة العليا وظيفة اجتماعية كبيرة خارج اطارها الاكاديمي.
هي رمز لمكانة اجتماعية ورأسمال ثقافي يعود على شكل رأسمال مادي: تحسين راتب، الحصول على درجة وظيفية عليا الخ.
والطبيعي ان يسارع الناس في مراحلهم العمرية الأولى أو مضمارهم المهني الأولي إلى تعظيم الدرجات العلمية لتعظيم الفرص أمامهم.
لكن لماذا يحرص من يشغلون مناصب عليا في سلطة الحوثي على اكتساب الشهادات العليا ؟
للإجابة على هذا السؤال نحتاج اولا معرفة الحقول الاكاديمية التي يسعى هؤلاء النفر إلى الحصول على شهادات فيها. ثانيا تشريح للسياق العام الذي يعلنون او يمارسون مراسم الحصول على شهادات أكاديمية عليا.
نجد ان السنوات الاخيرة قد أفرزت ظاهرة حصول عدد كبير من السياسيين وكبار رجال الدولة وقيادات الاحزاب على شهادات عليا وبعض هذه الشهادات من مؤسسات وهمية وبعضها في مواضيع معرفية تعكس حقل الصراع السياسي والفكري في اليمن سيما وأغلبيتها في الحقل الديني.
وكثير من السلفيين والاصلاحيين حصلوا أو التحقوا ببرامج شهادات الدكتوراة في السنوات الاخيرة وهذي مسألة جديرة بالانتباه وليست مجال اهتمامنا هنا لانها نابعة من صراع بين رجال الدين والطبقة السياسية داخل هذه المكونات.
، لكن اللافت في هذه الظاهرة هي الشهادات التي تقدمها جامعة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين والتي خضعت لهندسة كلية حتى يعاد تعريف دورها ووظيفتها وتوجهاتها مع انها الجامعة الام في اليمن والأقدم تأسيسا وكانت قد قطعت شوطا في بنائها المؤسسي والأكاديمي منذ عقود.
كثير من الاطروحات التي تناقَش تعكس الهيمنة الايديولوجية للجماعة الحوثية اولا ورغبتها في توجيه الاشتغال الاكاديمي بما يناسب سلطتها وهيمنتها وترسيخهما باسم العلم ومن داخل الصروح الاكاديمية.
وهذا يعني خروج الجدل الديني والمذهبي من المنابر التقليدية كالمساجد والإعلام والمراكز البحثية ومراكز الدراسات التابعة لجماعات متعددة إلى داخل العملية التعلمية وصروحها.
الشهادات النابعة سيما الماجستير والدكتوراة هي حصيلة طبيعية لاستعمال القوة وإقحام الأكاديميا فيها. وغرض الجماعة اسباغ صفة اكاديميا على معتقداتها وتكريس هيمنة مذهبية وبناء سردية وطتية جديدة تؤله مذهب وأئمة. اي صراع على التاريخ والذاكرة.
ثانيا المجال الاخر من الشهادات ياتي من العلوم السياسية والادارة والشريعة والقانون. وهذه معارف حكم وسلطة .
لم نسمع كثيرا ان قائدا حوثية حاز على شهادة الماجستير في الفلسفة او علم الاجتماع لان هذه العلوم لا تمكنه في الحكم بل تحثه على التفكير.
اي انها شهادات وظيفية تخدم رغبة الجماعة في التمكن من ادوات السلطة وفنون الحكم ليس إلا. وليس رغبة محض في كسب المعارف والتراكمي المعرفي المتنوع.
الوجه الاخر من المسألة هو ان المعرفة اداة صراع. او لنقل وسيلة تدافع بالمعنى القراني. لكنها هنا اداة صراع متعدد الطبقات كما سنرى.
وصلت الجماعة الحوثية إلى الحكم عبر البندقية. جماعة مقاتلة جيدة التنظيم أجادت اقتناص الفرصة ونفذت من الشروخ الاجتماعية والسياسية للنخب اليمنية حتى استولت على العاصمة وكبريات المدن. لم تكن لديها خبرة ادارة لأي منطقة لانها لم تكن عمليا تسيطر على منطقة على نحو كامل وتحكمها بطريقة ذاتية. هيمنتها كانت مسلحة وقبضة امنية وبقية اوجه الحياة في مناطقها تسير بموارد الدولة المركزية وموظفيها.
لكن كيف استطاعت الجماعة الحوثية ادارة المشهد وهي هكذا مفرغة من القدرات؟
استطاعت عبر شبكة تحالفات كبيرة خلقتها الجماعة الحوثية واستندت إلى امسكاها بالقوة العسكرية وسرعة التحرك.
دخلت صنعاء بتحالف مع نظام صالح ورجاله. لكنها لم تكن تأمن جانبه. وكان تحالفها الاهم والعضوي هو تحالف النخبة المقاتلة الصعداوية مع النخبة المدنية الهاشمية في صنعاء.
إلى جانب انفراط عقد التحالف الحوثي الصالحي ظهرت شقوق لهذا التحالف العضوي الهاشمي أفرزت هواشم الطيرمانات وهي النخبة الأرستقراطية المدنية والتي كانت الأداة الناعمة للإدارة بحكم انغماسها الكلي في مفاصل الدولة وخبرتها الكبيرة وراسمها الثقافي الهائل وهواشم صعدة وتابعيهم من المقاتلة القبليين.
كان لا بد للمكوّن الصعدي ان يعزز مكانته لياخذ زمام الأمور. كل شهادة (ماجستير او دكتوراة ) يحصل عليها قيادي حوثي صعدي تعني ازاحة محتملة لهاشمي او قيادي من العاصمة.
لكن مع الوقت ونتيجة طبيعية للتحالفات اللحظية والصراع على توزيع السلطة والثروة ظهر على الاقل جناحان داخل الجماعة الحوثية تحت ظل سلطة عبد الملك الحوثي غير المرئية والفاعلة.
ازدواجية وتعدد الأجهزة والمؤسسات داخل السلطة الحوثي تترجم هذه الأجنحة. إلى جانب الأجهزة التي ورثها الحوثيون انشأوا اجهزة موازية امنية ومدنية وعسكرية.
اللجنة الثورية هي النظير للرئاسة على سبيل المثال. مع هذا هناك صراع ايضا للاستحواذ على الأجهزة القديمة. إذا المشاط ليس اكثر من واجهة قياسا بقيادات يفترض انها تعمل تحت امرته لكنها تُراكم المهام والسلطات. والطريف ان الجميع في سباق محموم على نيل الشهادات العليا او الاشتراك في دروس في العلوم السياسية والقانون والإدارة. رغم توليهم مناصب تغص بالمهام المرهقة في ظل صراع وحرب فان رجال ونساء الطبقة الحاكمة الحوثية لم تلته عن حضور دروس؛ دروس عقيدية لتعزيز واثبات الولاء لعبد الملك الحوثي ودروس في فنون الحكم والإدارة.
داخل هذه النخبة الحاكمة هناك فرز طبقي وفئوي وجهوي ايضا.
تستمد الطبقة الهاشمية سلطتها من كونها سليلك ابناء فاطمة وهذا امتياز قِبلي يمنحها مرتبة أرستقراطية. لكن الانتماء الجهوي يخصم من هذا الامتياز لصالح هاشميو صعدة. ثم ياتي ابناء القبايل وكبار الملاك وقادة الجماعات العسكرية.
يقف المشاط على رأس السلطة التنفيذية (نظريا) ويخضع لسلطة غير مرئية هي سلطة عبد الملك. لكن هناك من هو ادنى منه ويرى نفسه ارفع مرتبة ( اجتماعية) منه فضلا عن ان المشاط لم ينل من التعليم إلا القليل. وبهذا تتكون لديه عقدة مزدوجة تجاه من هم ادنى منه في الترتيب الإداري.
هل هو بحاجة إلى شهادة ترفع مقامه رغم انه يجلس على اعلى كرسي السلطة ؟ ما حاجته إلى شهادة عليا لن تفيده في ترقية وظيفية ؟
الحقيقة ان الشهادة في هذا السياق ليست اكثر من اكتساب أداة جديدة لكسب الصراع الداخلي ذي الطابع الجهوي والاجتماعي داخل النخبة الحاكمة الحوثية.
ثمة نقطة اخيرة تعكس ذهنية الجماعة الحوثية. نشأت هذه الجماعة من امرين؛ عقيدة مغلقة في التاريخ ومنغلقة في المعارف، ومن حرب تستدعي الشره.
لا مجال للشراكة معها. وليست لتحكم فقط وتنشغل بالمجال السياسي. بل لتحكم وتملك . تضع الجماعة الحوثية يديها حيث وسايل السلطة وأدواتها: الاقتصاد والتجارة، البنكوت والمصارف، الجيش والامن، التعليم والمعارف. هي شرهة إلى درجة انها لن تترك لاحد فرصة ان يعيش إلى جوارها.
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك