آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-02:48ص

ابن الأجودين وتاجر المحيط الهندي

الجمعة - 07 مارس 2025 - الساعة 12:39 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏محمد بن عمر بازرعة..

ابن الأجودين وتاجر المحيط الهندي


ولد محمد بن عمر بن أحمد بن سعيد بازرعة الكندي سنة 1270هـ، الموافق 1853م، في قرية الرشيد، وادي دوعن، بحضرموت.

نشأ وتربى وترعرع بين أكناف جده وأبيه وأعمامه، وبين إخوانه وأخواته، في أسرة دينية محافظة.


التحقَ بكتاب القرية صغيرا، فقرأ القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة والحساب وعلوم القرآن، وحين فرغ من ذلك عاد إلى حقله ومنجله للعمل في الزراعة، مهنة الآباء والأجداد في وادي دوعن الشهير بجودة عسله وجودة نخيله، وبين هذين الأجودين عاش فصل حياته الأول الذي لم يقتنع به، فسخر قدميه للريح، مرتحلا للتجارة، كعادة الحضارمة العصاميين الأمناء.


ولعل الدوعنيين أكثر الحضارمة ارتحالا وهجرة في ذلك الوقت، نتيجة لبعض الاضطرابات الاجتماعية آنذاك. ارتحل بعضهم إلى عدن، وآخرون إلى المكلا، وكان الشاب محمد بن عمر ممن ذهب إلى المكلا، ولم يطل البقاء هناك، فغادرها نحو عدن أولا، ثم هاجر نحو الحبشة، مع شقيقه سالم عمر.


يذكر أحد رفاقه أنه عمل في بداية حياته حمالا في مينائي المكلا وعدن، وأن امبراطوريته التجارية قد تكوّن رأسمالها الأول من عائدات هذا النشاط المتواضع، وأن دَرّاعته التي كان يحمي بها ظهره أثناء تحمل البضاعة كان يعلقها في مكتبه بعدن، موحيًا لزائريه أنه كان حمالا متواضعا، ثم أصبح تاجرا كبيرا. وأضاف رفيقه هذا: أن بازرعة كان متدينا مُحسنا، يساعد المحتاجين والفقراء، وهذه الصفة التي حملها هائل سعيد أنعم من بواكير حياته الأولى.


اقترن بزوجتين اثنتين، الأولى: ابنة عمه أسماء، والثانية مصرية بعد رحلاته إلى مصر.

سافر من عدن إلى مدينة مصوع، في ارتيريا، في العام 1354هـ، إبان الاحتلال الإيطالي لها، فأسس فيها مركزه التجاري الأول، مشتغلا بتجارة التمر والذرة واللبان والأقمشة والجلود وغيرها، ولصدقه وأمانته، وجده واجتهاده حقق أرباحا كبيرة، ففتح مراكز تجارية أخرى في عصب وأسمرا، يساعده في ذلك شقيقه سالم.


وهناك كان مرجعية تجارية واجتماعية كبيرة لأهل تلك البلاد، وغيرها، فقد كان منزله مزارا ومضافة للوافدين من التجار والزوار والدعاة، الحضارمة وغير الحضارمة، مساهما في بناء المساجد والمدارس، من أبرزها مساهمته في بناء جامع أديس أبابا ومساجد أخرى، كما ذكر المؤلف محمد علوي عبدالرحمن باهارون، في كتابه: الشيخ محمد عمر بازرعة ودوره في تجارة المحيط الهندي.


ظل فترة في ارتيريا، عاد بعدها إلى حضرموت، وفي مدينة المكلا فتح مركزا تجاريا جديدا، في العقد الثالث من القرن الرابع عشر الهجري، كما يذكر المؤلف باهارون، يتاجر في التمر والحبوب وغيرها، وحينها امتلك أول سفينة شراعية، وامتلك حافة بكاملها مع إخوانه، عُرفت بحافة آل زرعة، وآنذاك قام مع أخويه ببناء مسجد بازرعة الشهير سنة 1324هـ، وأوقف له العقارات الخاصة به، إضافة إلى مدرسة خاصة، عُرفت بمدرسة بازرعة التي التحق بها المئات من الطلبة.


ولم يدم بقاؤه كثيرا في المكلا، حيث انتقل إلى عدن، وهي الحاضرة الكبيرة والميناء العالمي الشهير، وكالعادة كان منزله مضافة للزائرين والوافدين، مساهمًا في أعمال الخير هناك، فقد كان يقوم بالنفقة على مرتادي مسجد العيدروس، موزعًا الأرز الذي كان يستورده على الفقراء والمحتاجين.


كما أنه قد بنى مدرسة على نفقته، سميت باسمه، مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية سنة 1907م، وقيل سنة 1912م، تتالت على إدارتها كوكبة من الشيوخ العلماء، العرب واليمنيين، أبرزهم الشيخ العلامة علي محمد باحميش، وقد كان من أبرز المدرسين فيها: الأستاذ نعمان والأستاذ الزبيري أثناء إقامتهم بعدن، مخصصا لها الوقف الخيري الخاص بها، وقد جدد بناء هذه المدرسة نجل الشيخ المذكور محمد سنة 1954م على نفقته الخاصة، وأعيد ترميمها على يد سبطه أبي بكر سنة 1994م.


ذكر صاحب كتاب "إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت" العلامة عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف أنه استوطن عدن، وله فيها خيرات ومحاسن، منها مدرسة كبيرة بناها بعدن، في سنة 1349هـ، الموافق 1912م، وأنه ربى أولاده على الاعتناء بشعائر الدين والمحافظة عليها، مع بذل المعروف وإغاثة الملهوف.


وقد صارت مدرسة بازرعة بعدن على وجه التحديد إلى جانب كونها مؤسسة تربوية مزارا سياحيا، لما أسهمت به هذه المدرسة خلال العقود الماضية، فقد لعبت دورا كبيرا في التعليم والتنوير، وكانت المدرسة الأولى وربما الوحيدة آنذاك لليمنيين من خارج عدن الذين يلتحقون بها؛ لأن السلطات البريطانية قد منعت أي يمني من الالتحاق بأي مدرسة داخل عدن، ما لم يكن يحمل مخلقة عدنية "شهادة ميلاد"، فتكفلت هذه المدرسة بتعليم اليمنيين، شمالا وجنوبا، ومن يدري أن صاحب فكرة "الجمهوريّة" المناضل محمد أحمد نعمان كان أحد طلاب هذه المدرسة، نهاية أربعينيات القرن الماضي، وأيضا: أبو اليسار اليمني المفكر السياسي عبدالله عبدالرزاق باذيب، والفنان الكبير محمد عبده زيدي، والفنان أحمد قاسم، وغيرهم. إنها همّة الكبار، وإنجازات العظماء:

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسامُ


لقد ساهم الشيخ بازرعة مساهمة إيجابية كبيرة في إنعاش التجارة بين العرب والمحيط الهندي وشرق أفريقيا، بتأسيسه المراكز التجارية في عواصم هذه البلدان، وبامتلاكه أسطولا بحريا، يضم العديد من السفن التي شكلت همزة وصل بين البحار والمحيطات، بين الهند ومسقط ومصوع والبصرة وحضرموت وعدن واللحيّة، وكان من أوائل تجار البن في هذه المدن والموانئ؛ بل أول من أدخل تجارة البن إلى مصر، وأكبر تجارها، إضافة إلى تجارة العنبر واللبان والصابون، من خلال وكلاء ومديرين من أكثر من جنسية عربية.


يقول الناخوذة الشيخ محمد عبدالله باعباد في مذكراته عنه: فتح التجارة في كل شيء: الخشب من منيبار، والتمر من البصرة والأرز من الهند، وكان يتعاطى التجارة إلى الهند والسند.


وقد بلغت سفنه حوالي عشرين سفينة، متنوعات الأحجام والحمولات، قاد هذا الأسطول ربابنة أفذاذ من نواخذة المكلا والديس والشحر، وكانت حديث التجار؛ بل مادة شعرية للشعراء الذين تغنوا بها. تم تأميمها من قبل الحزب الاشتراكي عام 1970م.


ولا تزال مآثر بازرعة قائمة إلى اليوم في أكثر من مدينة عربية، منها مأثر آل بازرعة في حي الأزهر الشريف بالقاهرة، وقد قامت الحكومة المصرية بتجديد بنائه والحفاظ عليها كرمز تاريخي وأثري.


وقد صار على نهجه في التجارة والأمانة والإحسان أبناؤه وأحفاده النجباء، والذين يمثلون اليوم إضافة نوعية لرأس المال اليمني، وللعمل الخيري أينما كانوا، وحيثما حلوا.


رحم الله رجل الخير والإحسان، شيخ التجار محمد بن عمر بازرعة الذي رحل إلى ربه في نوفمبر من العام 1930م بعد حياةٍ حافلة بالجد والنشاط، تاركا بصمة مضيئة في عالم التجارة والعمل الخيري، كعادة عظماء حضرموت، بعد أن أوصى عند موته أن تخرج يده اليمنى من الكفن، ليذكر من حضر أنه خرج من الدنيا صفر اليدين.


إنها حضرموت العطاء والخير والكرم والشهامة، والتي قال فيها الشاعر:

وخير بلادٍ حضــــرموت ومِــن هُنــــا

تسامى على الكل الرجال الحضارمُ

د. ثابت الأحمدي