أن الماركسية إذ منحت التاريخ كل شيء, واوكلت اليه مهمة تحقيق كل الأمال والرغبات والاهداف الانسانية الواقعية الفعلية والمتخيلة كانت بذلك قد أعادت بعث الفلسفة الهيجلية الجدلية المترنحة التي تسير على رأسها بعد اعادها ماركس على رأسها. مع ماركس أصبح التاريخ تلك القوة السحرية التي تعمل من خلف إرادات البشر – معروف أن هيجل كان أول من قال بالتاريخ الذي يعمل من وراء الستار. حينما صرخ ؛ أن العقل يمتطي حصانا! مشبها نابليون بالضرورة التاريخية حيث اعتبر أن كل نشاط الافراد وعملهم ورغباتهم وطموحاتهم وصراعاتهم وأهدافهم ليست هي التي تصنع التاريخ, بل أن التاريخ الماكر يستخدم البشر لتحقيق اغراضه واهدافه الخاصة دون أن يعلم البشر بذلك. أن التاريخ يعمل من خلف ظهورهم كالسحر. ولكنهم – أي الناس – لا يستطيعوا الا أن يكونوا ادوات في ايدي التاريخ الماكر
الذي ينتصب أمام الأفراد كالقدر المحتوم, لا يشاؤنا الا ما يشاء هو أن التاريخ يثأر لنفسه من صانعيه ويمكر بهم, كما مكرت الموليرا ربة القدر باوديب! أنه التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدًا!
بيد أن ماركس تلميذ هيجل لم يقتنع بفكرة أستاذه عن الحتمية التاريخية السحرية بل كان يؤمن بقدرة الإنسان على صناعة التاريخ وتحويله. أن الإنسان لا التاريخ هو المطلق, وما التاريخ الا ما يصنع البشر منه.
هكذا يسدد ماركس أعمق نقد للفلسفة الهيجلية التي منحت التاريخ القدرة المطلقة على التصرف بمصائر البشر واستخدامهم كوسائل لتحقيق اغراضه, حيث كتب "في العائلة المقدسة" يقول: " أن التاريخ لا يفعل شيئًا وليس بحوزته ثروات أو كنوز, ولا باستطاعته أن يخوض معارك, وإنما الناس البشر, الاحياء هم الذين يقاتلون, ويملكون وينجزون كل شيء, ليس التاريخ على الإطلاق هو الذي يستخدم الناس كادوات لتحقيق اهدافه, كما لو كان شخصا منفصلا, أو قدرة خفية, ليس التاريخ الا نشاط الناس الساعين لتحقيق أهدافهم"
وهذا هو ما اراد سارتر أن تفهمه الماركسية. لقد اراد أن يعيد للماركسية عيونها, بعد كانت قد تنازلت عنها للتاريخ حينما منحته الثقة المطلقة.ولعل سارتر يتفق مع كامو في قوله:" ليس للتاريخ عيون ولا قلب لذا ينبغي رفض عدالته والاستعاضة عنها قدر الامكان بالعدالة التي يتصورها الفكر"
ويحاول سارتر أن يطمئن الماركسيين على صحة الماركسية بقوله: بان التيبس الذي اصابها لا يدل على الشيخوخة والهرم الطبيعي, ذلك أن الماركسية كما يراها ما تزال فتية نضره في عنفوان شبابها "فالظروف التي انتجتها لم نتجاورها بعد وافكارنا مهما كانت لا تستطيع الا أن تتغذى من تربتها" ويعلن سارتر في مقالته "الوجودية والماركسية": أن الوجودية على وفاق مع ماركس في أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم بانفسهم, في وسط معطى يشرطهم, لكن سارتر يضيف, أن هذا النص يقبل العديد من التأويلات والماركسية المتيبسة اختارت اسهلها, وقلبت ماركس رأسا على عقب! فبدلا من أن يصنع الإنسان التاريخ صار التاريخ هو الذي يصنع الإنسان , وذلك عندما جعلت الانسان مشروطا بصرامة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والحتمية التاريخية.هذا ويؤكد سارتر ان فلسفته تتبنى ما ذهب اليه ماركس في "راس المال" من ان نمط إنتاج الحياة المادية يسيطر بشكل عام على تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية, ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار نقد ماركس لمذهب المادية الميكانيكية" الذي يعتبر البشر نتاجا للظروف المادية والتربية دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة ان البشر يعدلون الظروف بانفسهم وأن المربي لابد له أن يتربى هو اولا" وما أن ينتهي سارتر من توجيه أهم وأعمق نقد معاصر للتعمية الماركسية حتى يفصح عن مراميه من هذا النقد قائلاً: " أن الإنسان يحتل في نظر الوجودية مكانة ممتازة اولا: لأنه يستطيع أن يكون تاريخيا, أي أن يحدد نفسه بلا انقطاع بعمله من خلال تجاوزه المستمر للمعطى التاريخي وثانيا: لأنه يتصف بالموجود الذي هو نحن وهكذا يكون السأل هو المسئول وهكذا تكون المعرفة نفسها عملية لا تأملية فهي تغير المعروف والعارف في وقت واحد, وهذا ما يفسر وفاقنا مع الماركسية, واستقلانا الموقت عنها.ويوضح سارتر " لإننا اكتشفنا الصدع في قلب الماركسية بالذات لا خارجها, حينما استبعدت السأل وحولت المسئول الى موضوع لمعرفة الانثروبولوجية سوف تفقد الوجودية سبب وجودها, ويخلص سارتر: وكل ما أتمناه هو أن تاتي هذه اللحظة باسرع وقت ممكن"
ولا يفوتنا أن نلاحظ وجه الشبه بين نقد سارتر للماركسية التي استبعدت السأل -أي الإنسان - وحولت المسئول -أي التاريخ- الى معرفة مطلقة وبين نقد هيدجر – للأنثروبولوجيا التقليدية التي انساها السؤال عن الوجود, البحث في السأل نفسه: " إذ لايمكن لاي سؤال ميتافيزيقي أن يطرح, دون أن يكون السأل بما هو سأل متضمنا هو نفسه في السؤال وعالقا فيه"
على هذا النحو يعلن سارتر عن رأيه لحل مأزق الماركسية كي تستعيد حيويتها، إذ يرى أن الحل يكمن في دمج البحث الوجودي بالماركسية التاريخية بعد أن تكون قد تخلصت من أسطورة المادية وديالكتيك الطبيعة.وتجدر الأشارة إلى أن الفيلسوف الروسي المهاجر في فرنسا نقولا برديائف الذي كان قد عرف الماركسية قبل علاقته بالوجودية بل يمكن القول أنه هرب من جحيم الماركسية الشمولية الى واحة الوجودية الإنسانية التي افسحت المجال وسيعا للحياة الروحية للإنسان والحرية. كانت لديه نظرة مشابهة لنظرة سارتر في علاقة الوجودية بالماركسية، إذ كتب في كتابه "الحلم والواقع"" إذا كانت الماركسية لهفا على غايتها المزعومة لتحرير الإنسانية من عبوديتها الاقتصادية فأنا إذن ماركسي, لكن لا استطيع أن اقبل مطلقا أية احالت خارجية للضمير الشخصي, أي تحويله الى ضمير جمعي ذلك أن الضمير فردي جوى الانسان, وفي أعمق أعماق، هو حريته واناه الفردية العينية, أما"الضمير الجماعي" فهو أسطوري؛ أنه عملية من التغريب الذاتي للإنسان , يفقد فيها مركز وجوده الحقيقي, ويمنحه الى قوة اسطورية خارجية"
واضح ان هنري سيمون عندما تحدث عن تخوم مشتركة بين الماركسية والوجودية, كان يعني بذلك اهتمامها المشترك بالانسان التاريخي الذي يصنع نفسه ويصنع تاريخه, بيد أنه بينها فارق رئيسي في النظر الى مشكلة الحرية والحتمية التاريخية.
فكيف يا ترى حل سارتر هذه المعضلة في قلب الماركسية؟.. هذا ما سوف نجده في مؤلفه الكبير "نقد العقل الجدلي" 1960م. حيث انطلق سارتر في وجة نظره الى الانسان الحر والتاريخ, من زاوية نظر مثادولوجية وجودية وذلك على النحو التالي:
1- أن المعطى الذي نتجاوزه في كل لحظة بمجرد أن تعيشه, لا يرجع فقط الى الشروط المادية لوجودنا, بل لابد أن تدخل فيه ايضا طفولتنا الخاصة, آمالنا ورغباتنا استعداداتنا, مواهبنا طموحاتنا عقدنا النفسية وعاداتنا..الخ.
2- أن كل مشروع يتطلب حتى يتحقق ادواته الخاصة, ويذكر سارتر أنه يتفق من حيث المبدأ مع ماركس, في أن القوى المنتجة تدخل عند مرحلة معينة من تطورها في صراع مع علاقات الإنتاج حتى تبلغ مرحلة الثورة الاجتماعية.
ويشير الى أن هذا المبدأ عام, ملحا على أنه يجب أن ندرس نوعية الحدث التاريخي بتفاصيله الحية وجميع ابعاده, وذلك من خلال المنهج التقدمي التراجعي, وهو منهج استنباطي يستطيع أن يصل الى نتائج جديدة في الدراسة بعكس الماركسيين الذين حين يدرسون موضوعا من المواضيع لا يأتون بشيء جديد, بل أنهم يعرفون مسبقا ما سيكتشفونه لاحقا وهذا ما فعلوه حقا عندما درسوا تطور علم الاجتماع المعاصر وعلم السييرنتيك التقني, معلنين انهما علمان برجوازيان.
3- إذن فالإنسان يتحدد بمشروعه؛ المشروع الذ هو الوجود بعينه, ذلك التطلع الدائم الى التجاوز الى الخروج من الذات والانسلاخ عنها باتجاه المستقبل, وهو ما يسميه سارتر بالاختيار أو الحرية. المشروع هو ايضا قدرة إلانسان على الكشف في الممكنات التاريخية ليختار اكثرها واقعية, والحالة كذلك لا نستطيع أن نفهم الإنسان أو أبسط حركة من حركاته إذا لم نتجاوز الحاضر الصرف ونفسره بالمستقبل, والإنسان بتجاوزه الحاضر الى المستقبل يخلق الدلالات تماما مثل ما نراه في السينما.. أنها ترينا مثلا حفل عشاء ثم تقطع المشهد, وبعد لحظات ترينا اقداحا مسفوحة وزجاجات فارغة واعقاب سجائر تملاء الأرض وهذه الاشياء وحدها تكفي لتدلنا على أن الضيوف قد سكروا وقضوا ليلة حمراء.هكذا يلحف سارتر, بان الدلالات تأتي من الإنسان ومن مشروعه لكنها مسجلة في الوقت نفسه في الاشياء, في العطالة خزان الممكنات. كما يتضح من النصوص اعلاه أن ضمير سارتر الوجودي الفينومولوجي مايزال حاضرا في "نقد العقل الجدلي" إذ ليس من العسير ملاحظة أن الروح التي كتب بها سارتر – بحثه الجديد – ما تزال تنطوي على بعض الملامح القديمة التي كانت تقوم على مبدأ "بحضورنا الى العالم نوقضه من سباته". وعلى الوجود لذاته الذي يكتشف العالم ويعطي المعاني للاشياء والوقائع بحريته.
هكذا يذهب سارتر الى التأكيد إذا :ما أردنا أن نفهم عمل انسان بكل ما فيه من حركات ومراحل فعلينا أن نتبين الغاية التي يريد أن يصل اليها, والا فقدت حركاته كل دلالة, لكن لا نستطيع أن نفهم الغاية المباشرة الا بالنسبة لسلسلة الدلالات التالية, التي تكون كل منها اطار الدلالة السابقة ومضمون الدلالة القادمة, أن الغاية تغتني اثناء تنفيذ المشروع, أنها تتطور وتتجاوز تناقضاتها مع المشروع ذاته.
وكما كان سارتر يوحد في "الوجود والعدم" بين الحرية والفعل والغاية ها هو هنا بالمثل – حيث يرى أن الضرورة والغائية متمازجتان أعظم التمازج, وهذا يعني أنه بإلاضافة إلى وجود غايات شخصية تصدر عن الإنسان أو الطبقة فان هناك غايات لا شخصية مستقلة بذاتها, تفرض نفسها على مشاريعنا.
🌺مقتطف من رسالتي في الماجستير عن الوجود والماهية عند جان بول سارتر بإشراف أ.د. أحمد برقاوي