آخر تحديث :الثلاثاء-18 مارس 2025-11:48م

‏عبدالفتاح البتول.. رائد في مدرسة الكبار

الثلاثاء - 18 مارس 2025 - الساعة 04:57 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


يرحلُ الكبارُ عن هذه الحياةِ وتبقى أعمالهم الكبيرةُ شاهدةً على سُمو نفوسهم وعظمة إنجازاتهم التي قدموها خلال حياتهم، فيعيشون حياةً جديدة مع أعقابهم وأتباعهم بهذه الإنجازات، وربما ابتدأت حياة العظماء الحقيقية بعد رحيلهم عن الحياة؛ لأنّ الإنسانَ بأثره ومآثره الطيبة، وبحجم ما قدم في مسرح الحياة العامة، وعلى العكس من ذلك فهناك أناسٌ "موات" وهم يعيشون أحياء، ومواتُهم في جفافِ عقولهم وعقم إنجازاتهم.


عبدالفتاح محمد البتول، من مواليد 1967م، في محافظة إب، وهو أب لعدد من الأبناء والبنين. كاتب صحفي معروف، وعضو في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، مهتم بشؤون الفكر الإسلامي والتاريخ السياسي، ويُعتبر من أبرز الكتاب والمثقفين اليمنيين الذين أثروا الفضاء الثقافي والعلمي بالمؤلفات والأبحاث والكتابات التاريخية الرصينة، تأثر بكتاباته الكثير، ولا تزال أصداؤها ماثلة إلى اليوم. له عدة مؤلفات، أهمها كتابه المشهور "خيوط الظلام.. عصر الإمامة الزيدية في اليمن".


وكتاب "خيوط الظلام" من الكتب المهمّة التي دقت أجراسَ الخطرِ من وقتٍ مبكر، قبل أن يقعَ الفأسُ في الرأس، كما يُقال، ولكن للأسف الشديد، هذا الكتاب وأمثاله من الكتب المهمة والدراسات المبكرة لباحثين وكتاب آخرين، كانت ــ آنذاك ــ أشبه بصرخةٍ في فلاة، أو شهقة طويلة لم تسترد زفيرها حتى اللحظة؛ لأنّ المعنيين بالأمر كانوا يَغطُّون في سباتِ نومهم العميق، وكانوا في وادٍ آخر، بعيدين عن قضايا الوطن الجوهريّة، إلا من ندر منهم.


إنه استشفافُ المستبصر، وتأملات المفكر، وحدس المثقف الذي يتأملُ اللامرئيات في المرئيات، فيقرع أجراس الخطر، ويوقظ النائمين في طريق السيل، وإن بالماء البارد في الشتاء القارس.


يُعتبرُ الباحث والمثقفُ الكبير المرحوم الأستاذ عبدالفتاح البتول من أهم الأقلام اليمنية التي ساهمت في صناعة وعي فكري وثقافي وسطي، من بداية تسعينياتِ القرن الماضي، وبرز أكثر في نهايتها وبداية الألفية الجديدة، محاربًا على جبهتين: جبهة الأصدقاء التقليديين من الداخل، وجبهة الخصوم الأعداء من الخارج، ولاقى الكثير من العَنتِ بسبب ذلك، من الأصدقاء والخصوم على حد سواء.


والحقيقة أنّ مقالاته وأبحاثه التي نشرت في صحف: الصحوة، الجمهورية الثقافية، صحيفة الثقافية، مجلة نوافذ، الشموع، أخبار اليوم، الناس، ملحق الوسطية، فملحق أفكار، الصادرَين عن صحيفة الجمهورية قد ساهمت في صناعةِ وعيٍ ثقافيٍ وفكري لا يزال مُمتدًا إلى اليوم، ويعترف كبارُ كتاب اليوم أنهم ممن تتلمذوا على مقالاتِ ودراسات الأستاذ عبدالفتاح البتول. ومحدثكم واحدٌ منهم. وهذا عن الكاتب، فماذا عن الكتاب؟!


في الواقع يُعد كتابه الآنف الذكر عملا من عدة أعمال، ونحن نعتبره الأهم منها، لملامسته قضيّة جوهرية، هي قضية اليمن واليمنيين؛ مُسلطا ضوء فكره الأصيل على "خيوط الظلام" الشيطانية التي حجبت النورَ عن اليمنيين فترة من الزمن، بركاماتِ فكرها الكهنوتي العنصري البغيض، ولا تزال. وهو كتابٌ من الأهمية بمكان، تَتَبّعَ فيه تلك المسيرة الظلامية من بداياتها الأولى وحتى النهاية، مُحذّرًا من أن تلتفّ هذه الخيوطُ مرة أخرى حولَ أعناقِ اليمنيين، أو تعيد نسج نفسها على أعينهم، كما حدث مع أجدادهم الأوائل، وهو ما كان فعلا؛ لأنّ الأحفادَ لم يتعظوا بعِبرةِ الأجداد.


تتبعَ الباحثُ في كتابه المذكور فصولَ المؤامرةِ التي حاك دسائسَها الظلاميون القدماء أولا، منذ البدايات الأولى لتسلل الأفكار الفارسية إلى الثقافة العربية، فالمرحلة التي تلتها، ليفصّل الحديث عن فترة حكم هؤلاء الأئمة، كعصابة بلا شرعية أو مشروعية، تسعى للحكم من أجل الحكم فقط، مُستندين على نظرية ثيوقراطيةٍ عتيقة عفا عليها الزمن، هي ــ في حقيقتها ــ امتدادٌ كنسي، من تأثيراتِ رهبان يسوع، ولا علاقة لها بالإسلام، كما يدعون. إنها نظرية هدم وتهديم لا أكثر.


يقول السياسي والكاتب اليمني الكبير الأستاذ نصر طه مصطفى عنه: إن الكاتب وضع النقاط على الحروف وفصّل وأجمل في كثير من الأمور التي كانت محل التباس، فأشبعها بحثا حتى خرج بالنتائج التي خرج بها، وهي نتائج أحوج ما تكون إليها أجيالنا الجديدة التي لم تعد تعرف عن تاريخها إلا أقل القليل، ولذا فإن هذا الكتاب أحد أهم المراجع التي ستنير الطريق لشبابنا، وستبين لهم ما لم يعرفوه ويقرؤوه عن تاريخنا الطويل الملبد بالغيوم والأحزان، والمكلل بالانتصارات والأمجاد العظيمة.


ويقول عنه الكاتب فتحي أبو النصر: والحق أقول إن عبد الفتاح البتول كان مدرسة فكرية متكاملة، تعلم منها الكثيرون، بل كان يسعى جاهدا لإثراء الفكر اليمني والعربي بكتاباته وأبحاثه الرصينة والاستثنائية.


وبرحيله، فقدت اليمن واحدا من أرقى عقولها خصوصا في وقت لا تزال فيه اليمن تمر بمرحلة صعبة من تاريخها، لكن تظل تحذيراته من الإمامة وعودتها دليلا على أهمية استمرار النضال الثقافي والفكري في مواجهة الظلام.


على إنني أذكر الآن بالذات الأستاذ عبد الفتاح البتول، ليس فقط بسبب فكره العميق وإسهاماته الثقافية، ولكن لأنني أتذكر كيف كان كتابه "خيوط الظلام" له دور كبير في توضيح العمق التاريخي والفكري للمذهب الزيدي والهادوية.

فالكتاب لم يكن مجرد نقد أو سرد تاريخي، بل كان بمثابة إشراقة ثقافية وفكرية تقدم لنا فهما شاملا عن الجذور الفكرية للمذهب الهادوي، وأثرها العميق على مجريات التاريخ اليمني.


لقد كانت ميزةُ هذا الكتاب إلى جانبِ قيمته العلمية، التاريخية والوطنيّة أنه غطى فراغًا واسعًا في المكتبة اليمنية، في العام 2007م وما بعده؛ لأنّ اليمنيين الجدد من الناشئة والشباب يومها لم يكونوا قد رأوا من الجَمَل غير آذانه، بل وأقل من آذانه، من فتنة وشر جماعةِ البغيِ الحوثية الإمامية؛ وربما كان البعضُ منهم مخدوعًا بها حين كانت تتقمصُ جلبابَ المظلومية، وترفع شعاراتِ الحريّة والوطنيّة والمساواة، لتخفيَ تحتها أنيابها الخبيثة ومخالبَها السّامة.


كانت الكتبُ التي تكشفُ زيفَ الإمامة حينها قليلة جدًا، وربما على أصابع اليدين فقط؛ ذلك أنّ تلك المرحلة كانت مرحلة كيدٍ سياسي، أضاع فيه المتكايدون الوطنَ، حتى أصبحوا جميعا عُراةً في عَرَاء، هائمين في الأصقاع والبُلدان، باحثين عن مأوىً يضمُّ شتاتهم المأساوي، وبعدها أفاقوا..!

نعم، لقد أفاقوا جميعًا، ولكن بعد وقوع الكارثة، وأصبح الأمرُ كما قال الشاعر:

إذا ضيّعتَ أولَ كلّ أمرٍ

أبت أطرافُه إلا اعوجاجًا


لقد مثل عبدالفتاح البتول إضافة نوعية للمشهد الثقافي اليمني، كاتبا وباحثا ومؤلفا ومتحدثا، في لحظات استثنائية من لحظات المشهد الثقافي اليمني، منذ العام 1990، وحتى ما بعد العام 2010م التي تعتبر الفترة الذهبية للثقافة اليمنية، وفيها برزت أكثرُ الأقلام الشابة على الساحة اليوم، وتكونت خلال هذه الفترة، في العديد من الصحف والمجلات والملاحق الأدبية والثقافية، وكان الكاتب والمثقف البتول أحد أكبر هذه الأقلام وأبرزها، إلى جانب زملاء له آخرين، منذ بداياته الأولى حتى وفاته في سبتمبر 2020م، رحمه الله.

د. ثابت الأحمدي