كان أدونيس أول مثقف عربي ينقد الربيع ويعبر عن مخاوفه منذ الشهور الأولى في 2011م. لكن، كانت الحماسة الثورية تمنع الثائرين الغاضبين من رؤية المنطق الكامن خلف مثقف “لم يقف مع ثورة شعبه”، وكانت اللحظة لحظة التقسيم الثنائي الحاد للمواقف إلى “معنا وضدنا” و “ثوار وفلول” و”مؤيدون وخونة”.
لم يتداول الثوار الغاضبون النقد الأدونيسي للربيع، بل اخترعوا نسختهم الخاصة من أدونيس الطائفي الموالي للأنظمة والمدافع عن قمعها ومجازرها!
من أجل إثبات طائفيته، تداول المجال الإعلامي رأيا قديما لأدونيس كتبه في الأسبوع الأول للثورة الإيرانية يدعمها ويعبر عن تفاؤله بها. لكنهم لم يتداولوا مقالا آخر كتبه بعد فترة قصيرة من المقال الأول، يتخلى فيه عن دعمه للثورة الإيرانية بعد تكشف وجها القمعي.
الحقيقة أن الإعجاب بالثورة الايرانية في بداياتها لم يكن تهمة؛ فقد وقع في ذلك الاعجاب مثقفون غربيون بحجم ميشيل فوكو الذي لم يتراجع عن دعمها حتى بعد دخولها مرحلة الإرهاب وابادة المعارضين، وظل على إعجابه بها حتى اليوم مثقفون مثل حسن حنفي وفهمي هويدي، كما أيدها طيف عريض من المثفين العرب مثل معن بشور وأنور عبد الملك وأحمد بهاء الدين ووليد نويهض ومحمد حسنين هيكل، وحتى الخصم السني الإخواني لم يسلم من الإعجاب بها وتأييدها على لسان التلمساني والمودودي ونجم الدين اربكان.
يبدو أن خيبة أمل أدونيس في الثورة الأولى التي خرجت من الجامع (الخمينية) كانت وراء تخوفه ثم رفضه لربيع عربي يخرج من الجوامع. في هذا الموقف، هناك اتساق فكري وؤية فكرية مبنية على تجربة كانت مؤلمة ومحبطة. كان الهجوم على “علوية” أدونيس جزءا من المأزق الطائفي الذي وقعت فيه الثورة السورية خصوصا، بل كان من بين من اتهموا أدونيس بالطائفية، مثقفون كانوا ينظرون للثورة السورية باعتبارها ثورة الأغلبية السنية ضد الأقلية العلوية
لم يكن لأدونيس موقف جاهز وناجز من الربيع العربي منذ البداية. فالكتابات الأولى له كانت رومانسية مثلها مثل كتابات أنصار الربيع في ذلك الحين.
في 17 فبراير 2011، كتب مقالا عنوانه “ميدان التحرير فاتحة لبدايات القرن”، قال فيه إن ميدان التحرير في القاهرة نسيج وحده، لا عنصرية ولا تخندق باسم الدين ولا تعسكر ولا إيديولوجيا، وإنما الشعب بكامل فئاته وبكامل أجياله خرج يصرخ من أجل الحرية.
في مارس 2011، شارك في مسيرة في بيروت تنادي بإسقاط النظام الطائفي في لبنان.
في 21 ابريل 2011، شارك في حفل تأبين محمد بوعزيزي في مسقط رأسه بسيدي بوزيد وألقى فيه كلمة يتغزل فيها بالربيع العربي وبامكانيات خلق الانسان العربي الجديد من رماد بوعزيزي حسب تعبيره.
لكنه، في نفس الكلمة أيضا، تحدث عن الشكوك داخله في إمكانية خلق هذا الواقع الجديد. وقد قال معبرا عن شكوكه: “هل العربيّ الذي يتظاهر، اليوم، في الشوارع العربيّة، ذلك الذي يؤمن بتعدد الزوجات، ولا يفهم دينه إلاّ بوصفه تحليلاً وتحريماً وتكفيراً، ولا يرى إلى الآخر المختلف إلا بعين الارتياب والإقصاء والاستبعاد والنبذ – هل هذا العربي يمكن أن يوصف بأنه ثوري، أو بأنه يتظاهر من أجل الديموقراطية وثقافتها؟”
في مايو 2011، كتب عن الانتفاضة السورية وقال إن ما حدث في سوريا كان متوقعا بعد سيطرة حزب البعث منذ 1963 واحتكاره لتمثيل الشعب وممارسته العنف المادي والمعنوي معا. لكنه حذر من تحريك السياسة بعربة الدين، لأن تسييس الدين هو أعلى درجات العنف والإقصاء.
إلى جانب ذلك، انتقد أدونيس ممارسة الثوار للإقصاء والتعامل بمنطق الأقلية والأكثرية، خاصة أن منطق الأكثرية في الانتفاضة السورية بدأ يكتسي وجها طائفيا (الأكثرية السنية ضد الأقلية العلوية).
ونقد أيضا انحصار مطالب الربيع في تغيير السلطة فقط، وكأن السلطة هي كل شيء وسيتغير كل شيء تلقائيا بتغيرها. أما تغيير المجتمع (اجتماعيا وثقافيا وسياسيا)، فهو شيء يرفضه الثوري ويعتبره خروجا على الإسلام. إن إعطاء هاجس السلطة المكان الأول في حياة العرب، حسب أدونيس، ليس فعلا ثوريا بل تكرارا للتغيير السطحي السلطوي الذي يعانيه العرب منذ الاستقلال.
ليس غرض هذا المقال الدفاع عن أدونيس بقدر ما هو الدفاع عن الحق في نقد الربيع العربي والخروج من دائرة الأسطرة والتقديس وتكوين معرفة علمية بما حدث ولماذا سقط وفشل.
كانت مشكلة الساحات العربية أن الثوار الذين تجمعوا فيها كان فيهم الليبرالي المؤمن بالحريات المدنية والاقتصادية، واليساري المؤمن بالملكية العامة وتهافت الديمقراطية، والإسلامي المأسور داخل حلم الخلافة أو الولاية، والطائفي الذي رأى الربيع فرصة لرفع مظلومية الطائفة. كان فيها من هو أفضل من الحاكم ومن هو أسوأ من الحاكم بسنوات ضوئية.
………
مقتطفات من مقال نشرته في 2021